توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

انتخابات إيطاليا.. القوميون الأمريكيون يثيرون الشغب فى أوروبا

  مصر اليوم -

انتخابات إيطاليا القوميون الأمريكيون يثيرون الشغب فى أوروبا

بقلم - جميل مطر

عشت فى إيطاليا بعض أحلى سنوات حياتى، قبل إيطاليا كنت فى الصين أعيش منسجما مع قوانين وسلوكيات تفرض الانضباط، الناس فى طوابير لتحصل على القليل الضرورى، لا تشكو. المرور منتظم بلا اختناقات ولا صوت واحد يصدر عن سيارة نقل أو أجرة، احترام الدولة يكاد يكون فى مرتبة التقديس، حتى الطقس انضبط، من هناك انتقلت إلى إيطاليا، انتقلت من آسيا إلى أوروبا ومن بكين مدينة الزهد والتقشف إلى روما مدينة الرخاء والوفرة. وصلت روما فى وقت كان الأمريكيون يصورون فى أهم شوارعها مشاهد للحياة الحلوة التى يحياها الإيطاليون. ظهرت هذه المشاهد بعد ذلك فى شكل فيلم سينمائى حمل عنوان الحياة الحلوة، وبعد عرضه راحت الناس تذهب أفواجا إلى إيطاليا لتتعرف عن قرب على القفزة الاقتصادية التى استحقت لقب المعجزة الإيطالية فى وقت كانت بقية أوروبا تعانى آثار الحرب ومشقات إعادة التعمير. حياة حلوة ومعجزة اقتصادية اجتمعتا فى بلد شعبه يفضل الفوضى على النظام، يفضل الحرية على الانضباط، يفضل الراحة والاستجمام على العمل، يفضل الاستماع إلى الموسيقى عن الاستماع إلى خطب السياسيين. يكره رجال ونساء السياسة ويسخر منهم ومن أخلاقهم.
***
قبل أيام جلست أمام شاشة التليفزيون أشاهد مولد تيار سياسى عالمى ذكرنى بتيار أو تنظيم ما عرف وقتها بالدولية الاشتراكية. رأيت ستيف بانون، لاشك تذكرونه فهو الرجل غريب الأطوار الذى جاء به المرشح لمنصب الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب ليكون مستشاره الخاص للشئون الاستراتيجية، أو كما فى قول آخر هو الرجل غريب الأطوار الذى ربما جاء بدونالد ترامب مرشحا لمنصب الرئاسة ثم رئيسا لأمريكا وفى الوقت نفسه النموذج والقائد لدويلة جديدة تحت اسم «القوميون الجدد». رأيت بانون فى باريس وإلى جانبه رئيسة الجبهة القومية يتحدث إلى أعضاء الجبهة مدشنا الدولية الجديدة، وفى واقع الأمر لم يغادر باريس إلا وقد اطمأن إلى أن الجبهة القومية الفرنسية قررت إدخال تغييرات مهمة فى مكوناتها وأدائها.
رأيته، أى ستيفن بانون، فى روما يحتفل مع قادة حركة النجوم الخمس وقادة حزب «الجامعة» أو «الليجا» بالإنجاز الهائل الذى حققوه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة. الحركتان أو الحزبان تنهجان النهج نفسه الذى يسير عليه الرئيس دونالد ترامب فى واشنطن. بانون الرجل الذى أزاحه الرئيس ترامب من منصبه تحت ضغط العسكريين فى البيت الأبيض وقف بالساعات أمام أنصار الحزبين القوميين الإيطاليين كما فعل أمام جماهير الجبهة القومية فى فرنسا يشيد بسياسات الرئيس ترامب المناهضة للعولمة. أشاد بقراره زيادة الضرائب الجمركية على واردات الحديد والصلب وهو القرار الذى يصب مثل غيره فى جهة تقييد حرية التجارة ورفض الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف لصالح اتفاقات ثنائية تضمن لأمريكا حقا واضحا. بانون يحرض الفرنسيين والإيطاليين لينضموا إلى رفاقهم من حكام بولندا والمجر المتمردين على الاتحاد الأوروبى. بانون يكاد يدعو قادة القوميين الأوروبيين للتحالف مع قادة روسيا ضد الاتحاد الأوروبى. حسب معلوماتى، لم يصدر بعد من واشنطن ما يكفى لإقناعى بأن الرئيس ترامب ليس على علم بأن نظامه طرف فى جماعة دولية ــ تحت الإنشاء ــ تدعو إلى تفكيك الاتحاد الأوروبى، وأن معظم سياساته الخارجية تصب فى صالح هذه الدولية القومية الجديدة.
***
تابعت عن بعد المرحلة الأولى فى انتخابات برلمانية مهمة جرت فى إيطاليا وأسفرت نتائجها عن مفاجأة لم يتوقعها قادة دول غرب أوروبا أو على الأقل كانوا يتمنون عدم حدوثها. أفاقوا فى اليوم التالى لعملية الانتخاب على بيانات تعلن فوز القوى القومية على الناحيتين اليسارية واليمينية بنحو نصف أصوات الناخبين. أؤكد أن قليلين هم الذين توقعوا هذه النتيجة، إذ كان قد ساد القارة الأوروبية ما يشبه الاقتناع بأن فوز إيمانويل ماكرون على ماريان لوبين فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية حطم أسطورة الصعود المحقق للقوميين على حساب أنصار الفكرة الأوروبية وغيرها من أفكار ومؤسسات وممارسات العولمة. لقد اتضح من نتائج الانتخابات الألمانية وتصرفات حكومات شرق أوروبا والمسئولين عن صنع سياسات الكرملين وقرارات الرئيس ترامب أن الاتحاد الأوروبى مرشح لمصاعب هائلة فى المستقبل. هذه المرحلة فى الانتخابات البرلمانية الإيطالية كانت فى حد ذاتها مفيدة من نواحٍ عديدة للتأمل ثم الدرس واستخلاص اجتهادات أكتفى هنا بذكر القليل منها.
***
أولا: تعلمت من تجربتى الشخصية فى أوروبا وبخاصة فى إيطاليا أن قليلين بين زعماء وسياسيى غرب أوروبا يأخذون الإيطاليين مأخذ الجد. الشعب الذى عايشته خفيف الظل محبا للمرح شغوفا بالحياة شديد التدين ومغرما بالفساد واختصار الطرق نحو الهدف هو الشعب الذى عايشته، وإن من بعيد، قبل أيام ناخبا فى ظروف مختلفة وزمن غير ذاك الزمن. لم يتغير. برلسكونى يعود ولا أحد مكترث بما فعله واستحق عليه أحكاما لم ينفذها طبعا وينزل الانتخابات ويحصل على أصوات لا بأس بها ولو أنها لا تصل إلى ما تمناه. المهم أنه يظل الزعيم الوحيد المرشح لقيادة تحالف وسط يمينى، بعد السقوط المروع للحزب الديمقراطى الحاكم.
ثانيا: الناخب الإيطالى فى هذه الانتخابات كان يختار بين أنظمة حكم وليس بين أحزاب. بمعنى آخر أظن أنه كان يفكر فى أمور أخرى غير اختيار أحزاب بعينها لتحكم. كان يفكر مثلا فى أنه ينتمى إلى أقاليم جنوب إيطاليا أو شمالها. كان يفكر فى جواز عودة الفاشيين إلى الحكم، وعلى كل حال لم يتوقف الإيطاليون أو على الأقل نسبة معتبرة منهم عن التفكير فى انتخاب عناصر تمثل الفاشية بالعقل أو بالحنين. أمثالهم ينتخبون من يتحدث باللغة الشيوعية بعد أن انحلت أحزابها وانهارت الشيوعية فى بلادها الأصلية. آخرون وهم الآن أقلية صوتوا لصالح مرشحين يعتنقون الفكرة الأوروبية، أعداد أكثر بدون شك هى التى صوتت لمن يرفع شعار «إيطاليا أولا»، وهو الشعار الذى يهرول من أجل تعميم فكرته المناضل القومى ستيفن بانون فى دولة أوروبية بعد أخرى.
ثالثا: النظام القديم فى أوروبا يسقط، أو بدقة أكثر أقول إن كثيرا من علامات النظام الأوروبى القديم تختفى. تختفى أو تضمحل القدرة الفريدة على إقامة تحالفات حزبية قوية لتحكم. أتوقع أن نشاهد مرحلة عصيبة من محاولات إقامة تحالف مناسب يحكم إيطاليا فى الفترة القادمة. لدينا نموذج فى المحاولات القاسية التى مر بها السياسيون فى ألمانيا وعلى رأسهم السيدة أنجيلا ميركل لإقامة حلف يحكم ألمانيا. مرت شهور خمسة ولم تتشكل حكومة بعد.
من ناحية أخرى. أشعر منذ فترة كما لو أن الأوروبيين عادوا يعيشون حال الانقسام بين شرق وغرب، وهو الحال الذى عاشوه لأكثر من ثلاثين عاما خلال الحرب الباردة. يبدو كما لو أن الانقسام أصبح فى حكم الطبيعة السياسية الأوروبية. هناك فعلا تيار واسع الانتشار فى دول فى شرق أوروبا لا يستغيث أنصاره فكرة الوحدة مع شعوب ودول غرب أوروبا. أخشى أن العكس ربما كان صحيحا أيضا. رغم ذلك هناك من يعتقد أن زلزالا وقع فى أوروبا هز إلى الأعماق العقل السياسى الأوروبى. أما عناصر هذا الزلزال فهى، حسب أنصار نفس الاعتقاد، أربعة هى الهجرة السورية الإفريقية إلى أوروبا، والفساد الرهيب المتفشى بين السياسيين الأوروبيين، والضعف المتزايد فى قوة ونفوذ سلطة المركز، أى الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، وأخيرا هى التناقص المستمر فى ليبرالية الديمقراطية الأوروبية تحت ضغط العناصر الثلاثة السابقة. أوروبا تتجه أكثر فأكثر نحو ديمقراطية غير ليبرالية.
***
أعود إلى إيطاليا التى رغم مشكلاتها العديدة وبخاصة المشكلات الاقتصادية مثل تفاقم البطالة وزيادة حجم الديون إلا أنها تظل بالنسبة لقادة أوروبا الموحدة فى بروكسل وبرلين لا تزال العضو الأوروبى الأقل إثارة للانزعاج. أكثر إزعاجا من إيطاليا كانت تأتى بريطانيا فى المقدمة، الآن تأتى دول شرق أوروبا بالإضافة إلى فرنسا وهولندا.

نقلا عن الشروق القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انتخابات إيطاليا القوميون الأمريكيون يثيرون الشغب فى أوروبا انتخابات إيطاليا القوميون الأمريكيون يثيرون الشغب فى أوروبا



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon