توقيت القاهرة المحلي 11:54:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ذروة عصر المقاهى الأجنبية فى مصر

  مصر اليوم -

ذروة عصر المقاهى الأجنبية فى مصر

بقلم: جميل مطر

شبت مراهقتى فى مصر على سنوات رخاء أعقبت مرحلة الحرب العالمية الثانية. أذكر جيدًا ما بلغنا على لسان مدرس التاريخ الاقتصادى لمصر وما قرأناه لأهم مؤرخى ذلك الحين عن مظاهر الثروة والانتعاش التى حفلت بها سنوات الإعمار والتطوير فى بعض أحياء الإسكندرية والقاهرة وبورسعيد وبخاصة تلك التى سكنتها أقليات من أصول أوروبية. هى السنوات، حسب ما أذكر، التى شهدت زيادة صافية لديون بعض دول الغرب المستحقة لمصر وزيادة فى أعداد العائلات «الراقية» المصرية المهاجرة كل صيف إلى سان بيارتز والريفييرا فى فرنسا وكابرى فى إيطاليا، وزيادة فى الأنشطة الاقتصادية والإعمارية فى منطقة رمل الإسكندرية وزيادة كبرى فى أفراد عائلات الطبقة الوسطى المصرية الذين اختاروا شواطئ بعينها فى الإسكندرية وبورسعيد ورأس البر لقضاء بضعة أيام أو أسابيع من كل صيف.
• • •
خرجت لأسواق العمل والتدريب مبكرًا، وبفضل العائد المادى المجزى غالبًا تمكنت من اكتساب هوايات غريبة ومفيدة إحداها، وهى موضوع مقال اليوم، السياحة فى المقاهى الأجنبية فى مصر. لا حديث عن مقاهى تلك الأيام إلا ويبدأ بسيرة جروبى والأمريكيين. الثانى أولًا. فقد تعرفت عليه طفلا فى المدرسة الابتدائية. كنت أزوره بصحبة والدى العاشق لكل ما هو حلو، مذاقًا ومعشرًا. هناك فى الموقع الرئيسى لمحل الأمريكيين المطل على شارع فؤاد الأول قدمنى الوالد لصحن معدنى كبير نسبيًا تطل منه ثلاثة أهرامات صغيرة، كل هرم منها بطعم مختلف وكلها وغيرها مما تزين به الصحن مثلج. كان يحب أن يفاخرنى وشقيقتى من بعدى بأنه يتحدث الفرنسية مع النادلة وكانت شقراء أجنبية الأصل فيطلب هذا الصحن مرتين، مرة لى ومرة له، تأكيدًا وتصريحًا بإجادته اللغة.
• • •
أما جروبى فتعرفت عليه شابًا وعدت إليه مع أسرتى الصغيرة أبًا. بدقة أوفر أقول عدت إلى فرعه الكائن بشارع عدلى مع عائلتى. أما فرعاه الكائنان فى شارع قصر النيل وفى هليوبوليس فقد شهدا زيارات عديدة بعضها فى صحبة زملاء عمل عرب وأجانب. كانت للمحل فى قصر النيل تقاليد فى الملبس والصوت وكنا نحترمها، أما حديقة جروبى فى عدلى فكانت حرة. تردد وقتها أن لجروبى مطعمًا فاخرًا فى نفس الموقع الرئيسى لكن يطل على شارع آخر. وقتها راح جل اهتمامنا فى سياحتنا وأشغالنا الداخلية يتركز فى المقاهى، ولم تحصل المطاعم الأجنبية إلا على النصيب الأقل من وقتنا و«خروجاتنا»، ومنها المفضل لى واسمه «لونيون» وموقعه أمام سينما ريفولى. سألت من يومين فسمعت أن جروبى أغلق أبوابه فى انتظار مالك جديد أو فى انتظار ما ينوى إدخاله من تغييرات المالك الجديد، إن وجد حقًا.
• • •
لا شيء يعود كما كان. جروبى تحت الإدارة السويسرية لم يستمر بعدها طويلًا بنفس الدفء والنظام والجودة. ولا استمر مقهى «لا باس» بعد أن تغيرت ملكيته ولا كورسال فى شارع الألفى الذى فضلناه دوما على مقهى السان جيمس ولا ساتشى وعديد مقاهى الكوربة فى هليوبوليس بحسب آراء أهل الضاحية التى عاشرت من الأجانب ربما أكثر من أهل أى حى آخر فى القاهرة باستثناء المعادى وجاردن سيتى والزمالك. صار صعبًا أن أعثر على «معمر» عاش فى ضاحية من هذه الضواحى المتخمة بحكايات المقاهى الأجنبية.
• • •
يشهد ذلك العصر بأن للمقهى الأجنبى فى الإسكندرية روحًا تختلف فى كل سماتها عن سمات روح المقهى الأجنبى القاهرى. هناك كان الأجنبى مالكًا لمقهى أو زبونًا له أو عاملًا فيه يتصرف ضمن منظومة حقوق وامتيازات لا يتمتع بمثلها المواطن المصرى ساكن الإسكندرية. كنا نقارن نظافة الحى الذى يسكنه الأجانب بنظافة الأحياء الخاضعة لسلطة وطنية ونقارن بين المقاهى الأجنبية بقريناتها المصرية، وفى كل الحالات كنا نشيد بسلوك الأجنبى وجودة إدارته واهتمامه بزبائنه.
• • •
مقاهٍ بعينها كانت محل إعجابنا فى الإسكندرية لهذه الأسباب ولغيرها. آتينيوس مثلًا الواقع على رصيف الكورنيش على بعد أمتار من محطة الرمل كان يتصدر قائمة محطات انتظارنا ولقاءاتنا. كان المقر الأهم لصناعة أفخر أنواع الحلوى الأوروبية. قريبا منه كنا نقضى ليالى نهاية الأسبوع فى مقهى كاليثيا، نجلس إلى جانب الشباك ليمر علينا بائع الجمبرى أو بائع المكسرات يتبادل معنا أخبار السياسة والاقتصاد ولا يتحرك قبل أن يفرغ من الشباك على مائدتنا «كبشة» فستق وبعضًا مما فى جعبته من نميمة.
ديليس المطل على تمثال سعد زغلول كان المنافس الأعظم لآتينيوس. هناك مثلًا كنا دائمًا مدعوين من إدارة المقهى أن نختار من أدراج وخزائن الجاتوهات والفطائر وشتى أنواع المخبوزات ما نشاء ونطلب من النادلة قهوتنا المزودة بالكريمة وعندما يحين موعد انصرافنا نمر على موظفة الحساب نبلغها بما استهلكنا، وندفع ما تطلب.
• • •
إن نسيت فلن أنسى مقهى البوريفاج فى الفندق، أو البنسيون العائلى الرائع، الذى حمل هذا الاسم. ذهبت إلى هناك صغيرا وترددت عليه شابا وحرصت على زيارته فى كل عودة لى من الخارج. التقيت بالأمس صديقا لديه حكايات مبهرة عن البوريفاج فى زمنه. أضفت له واحدة من عندى. قلت أنه فى كل مرة وطأت فيها قدماى هذا المقهى قبل خمسين عاما كنت أجد من بين الندلاء اليونانيين والنوبيين من يرحب بى مذكرًا بواقعة أو أخرى فى إحدى زياراتى عبر عقود خلت.
• • •
كنت فى العشرين من عمرى عندما كلفتنى المكتبة الأمريكية التى كنت أعمل بها بالسفر إلى بورسعيد للإشراف على فتح فرع لها فى بورسعيد. قضيت هناك أيامًا «تاريخية». كنت هناك بعد أيام من جلاء آخر جندى أجنبى ممن شاركوا فى حرب السويس ضد مصر. شاهدت الدمار، وكنت شاهدًا على بشاعة الإنجليز وحلفائهم. عشت فترة الجلاء النهائى لأكثرية الأجانب من ميناء كان يعج بهم. رحلوا ومن بين من لم يرحل صاحب أو أصحاب مقهى جيانولا الأشهر بين مقاهى ومطاعم المدينة. هناك كنت أتناول مجددًا قهوة الصباح وعشاء المساء قبل أن أعود إلى البنسيون فى شقة بمبنى قريب من البيت الحديدى.
• • •
هناك فى البنسيون سمعت تفاصيل مثيرة عن أهوال الحرب من السيدة اليونانية صاحبته وبناتها المنشغلات بجمع و«تحزيم» حقائب الرحيل النهائى من مدينة لم يعرفن غيرها طول العمر إلى وطن جديد لا يعرفن عنه إلا اللغة. تفاصيل عريضة عن حكايات عمر سمعتها من نادل مفضل أو من نادلة مفضلة لى أو لأصدقائى من زبائن مطاعم أندريا فى الهرم ولونيون وركس وروف الجراند أوتيل فى وسط البلد فى القاهرة وعشرات خارجها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ذروة عصر المقاهى الأجنبية فى مصر ذروة عصر المقاهى الأجنبية فى مصر



GMT 08:58 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 08:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 08:43 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 08:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 07:32 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 07:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 07:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 07:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon