توقيت القاهرة المحلي 10:38:23 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حكاية عشق

  مصر اليوم -

حكاية عشق

بقلم: جميل مطر

نتدرب خلال شهور الربيع وأوائل الصيف استعدادًا للمشاركة فى احتفالات مناسبة كانت ترقى فى أذهان بعض الأهل وأطقم التدريس والتلاميذ إلى مرتبة التقديس. المناسبة ليست كالمناسبات المعتادة مثل عيد جلوس جلالة الملك وعيد ميلاده وطلوع المحمل. ملابسنا لهذه المناسبة تختلف فهى بألوان تميل إلى الصفار والحمرة، بينما كانت فى المناسبات الأخرى بيضاء ناصعة. كذلك اختلفت الرقصات التعبيرية التى كنا نتدرب لتأديتها فى تلك المناسبة. الألحان تميل إلى ألحان الصلوات فى معابد عهود الفراعنة كما تخيلها مؤلفوها وعازفوها الذين ارتدوا لهذه المناسبة أزياء مصرية قديمة وانتحلوا صنادل جلدية. الألحان والرقصات والملابس والأطفال والرايات على الأرصفة ومن الشبابيك والشرفات كلها توحى بأجواء الخشوع مختلطة بمظاهر الفرحة والرضا.
• • •
هناك عند النهر فى منطقة الاحتفال، لعلها غير بعيدة عما عرفناه عندما كبرنا بمنطقة الروضة، طافت على سطح مياه النهر عشرات المراكب من كل نوع، من الفلوكات الصغيرة إلى اليخوت الفاخرة وكلها مزدانة بأعلام مصر الخضراء ورايات المعابد الزرقاء ولافتات تحى النهر بلغاته التى يفهمها، وأقصد الهيروغرافية واليونانية واللاتينية والعربية. تتوسط هذا الأسطول المتنوع من عازفى الموسيقى والراقصات والبحارة مركب فاخرة بستائر وأشرعة ألوانها تناسقت وانسجمت وفوق أكبر أشرعتها تاج مينا موحد القطرين دليلًا مؤكدًا وجود جلالة الملك فاروق والملكة فريدة وجميع بناتهما داخله. ومن فوق كل القوارب وعلى الشاطئين وفى أحد أقرب الميادين إلى الشاطئ يصطف الأطفال وتلاميذ المدارس يؤدون رقصات أشبه ما تكون بالفرعونية بين تعالى الزغاريد فى كل أحياء القاهرة، إنه يوم العيد، عيد وفاء النيل.
• • •
أعترف أننى قبل كتابة هذه السطور حاولت الاطمئنان إلى أن ما ورد فيها ليس محض تأليف أو اعتمادًا فقط على ذاكرة لعلها بلت من كثرة الاستعمال والاستشهاد. لجأنا، أنا وزميلتى الآنسة وفاء، إلى مخازن حفظ الذاكرة وأغلبها أجنبى الجنسية واللغة. عثرنا على نسخة من جريدة مصر الناطقة بالإنجليزية تصف بدقة متناهية ومعتمدة على الصور والصوت أحداث هذا اليوم العظيم. استأنا بطبيعة الحال لعنصرية، أو ربما استشراقية، كاتب المشهد أو المذيع، وبخاصة عندما وصف بعبارات استنكارية أن الفراعنة كانوا يلقون فى النيل فى هذا اليوم ومن باخرة الفرعون بواحدة من أجمل عذارى المملكة المصرية وهى حية، يلقون معها أيضًا الكعك والفاكهة وأنواعًا شتى من الأضاحى والتمائم بعد تلاوة التراتيل وأداء الصلوات، وأن هذا التقليد ظل يمارس حتى وقت قريب.
ما أزال إلى يومنا هذا أذكر «عصافير الجنة» الفيلم الأمريكى الذى عرض بكل الذكاء الممكن والفخامة أسطورة عاشت فى جزيرة من جزر الباسيفيكى تحكى قصة حضارة عتيدة فى جزيرة يثور فيها بين الحين والآخر بركان عنيف وشرس يغرق ناحية أو أخرى من أنحاء الجزيرة باللهب واللافا المنصهرة. فما كان من كهنة الجزيرة وملوكها إلا إصدار الأمر بإلقاء إحدى أجمل عذارى الجزيرة فى قلب البركان عند بلوغه قمة غليانه. ولمزيد من إتقان الأسطورة وفرض الاقتناع بها قرر المستشرقون من مؤلفى الأسطورة أن يهدأ البركان بل يبرد بمجرد تلقيه الضحية فى قلب فورانه.
• • •
للمستشرقين بعض الحق فى توصيفهم الدقيق لحالة العشق التى كانت تربط المصرى العادى بالنيل. أقول كانت لأننى غير واثق تمامًا من أن المصرى ما يزال يعيش الحالة التى عاشها مع النهر منذ قرون عديدة خلت وكما عشتها أنا معه طفلًا كنت ثم مراهقًا ثم شابًا.
أذكر أننا كنا نستدعى من إجازاتنا الصيفية باعتبارنا أعضاء فى فرق الكشافة وجمعيات الرحلات لنؤدى من الألعاب واللوحات الرياضية والمسرحية أدوارًا طالما تدربنا عليها خلال شهور الربيع وأوائل الصيف. كنا، كما كان الفلاحون والمسئولون، نتطلع بشغف وشوق ومعهما كثير من الرهبة ونوع غير خاف من التقديس إلى حلول موعد الفيضان. أذكر أننى، وكنت شابًا غير صغير السن، أخرج إلى شاطئ النيل أو إلى كوبرى قصر النيل لأمشى مع رفاقى ومياه الفيضان الغاطسة فى الحمرة تغمر أقدامنا ونعود فرحين وقد اكتست بالطمى أحذيتنا.
• • •
لا أظن أننى رأيت النيل ساكنا. عرفته ينبض دائمًا بالحركة والحب والعطاء. انتقدوه إن زاد عطاؤه عن المطلوب والمرغوب، وعندما أحسنت الدولة ترويضه ندم الكثيرون وأنا منهم. الوحش الجميل فقد بعض فتوته ومعها أحد دواعى تقديسه. ومع ذلك استمر ساحرًا وجذابًا، استمر فاتنا.
عشت معه أوقات لا تنسى. عشت معه أحلى لحظات مسيرته. عشت أعتقد أنه لا شىء أجمل وأروع من نيل أسوان المتسرب بين الجنادل بكثير من الدلال والنعومة. أعرف أصدقاء من الجنسين، وكنا فى رحلة صعدنا إليه حتى منابعه، لم يصمدوا أمام سحره «الأسوانى» حتى ألقوا بأنفسهم فى أحضانه شوقًا وعرفانًا. توقفنا طويلًا أمام لحظة خلود، هى اللحظة التى التقى عندها النيل الأحمر بالنيل الأبيض، وتعمدنا فى نهاية الرحلة أن نقف طويلًا أمام لحظة خلود أخرى، لحظة التقى النيل العذب بالبحر المالح.
• • •
أذكر أحلى أيام عمرى معه. كم مشيت على شاطئه الغربى من «الكيت كات» حتى القناطر الخيرية لا أمل صحبته ولا يمل تطفلى. كم قضينا من ساعات أمسيات مع فلاح يزرع أرضا من طرح النيل، نزوره تجديفا بقوارب تتسع لاثنين لا أكثر. نتبادل حبات الطماطم وأكواب الشاى بأكلات جاهزة، نغسل الطماطم بمياه النيل ونسمع شعرا فى حب النهر وأحلام المستقبل. سافرت بعيدًا وطويلًا. عدت أبحث فى النيل عن جزيرتى والفلاح. خانت عهودنا فاشتراها من أقام عليها كازينو للسهر. حزنت وسافرت مرة أخرى وعدت لأسمع أن الكازينو اختفى لصالح فندق، وأن النهر اختطفته العمائر، وأن الناس غير الناس.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكاية عشق حكاية عشق



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يفتح آفاقا جديدة في علاج سرطان البنكرياس
  مصر اليوم - فيتامين سي يفتح آفاقا جديدة في علاج سرطان البنكرياس

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon