بقلم:جميل مطر
سمعت وقرأت ما يكاد يلامس مرتبة الشعر فى وصف مزايا وخبرات المستر بلينكن المرشح لتولى منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية. أتفهم الآن إقبال الكثيرين من هواة ملاحقة تطورات العلاقات بين الدول على تجميع كل المعلومات الممكنة عن هذا الرجل، فهو الخبير والسياسى المخضرم المكلف بمهمة لعلها بين الأهم والأخطر فى كل المهام التى تحمل مسئولية تنفيذها وزراء خارجية أمريكيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لا أبالغ أن وضعت نفسى فى صف الذين يعتقدون أن من يقبل تولى هذا المنصب فى الظرف الراهن، ظرف الانتقال من إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إدارة جوزيف بايدن، لا شك يدرك أن مكانته فى التاريخ ترتبط بأحداث وتوقعات لا تقل أهمية عن أحداث وتوقعات تحولت إلى إنجازات ارتبطت بها مكانة كل من جورج مارشال، صاحب مشروع انعاش أوروبا الغربية، ودين أتشيسون، مهندس الحلف الأطلسى والقوة الدافعة وراء إقامة صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. أحداث وإنجازات أخرى صاغت سمعة ومكانة وزراء آخرين مثل الوزير الأسطورة هنرى كيسنجر ومنها التمهيد لمرحلة وفاق مع الاتحاد السوفييتى مهدت بدورها لمرحلة تشجيع الصين على الاقتحام السلمى للنظام الدولى، وهو الإنجاز الذى يعادل فى تداعياته مشروع مارشال وإنشاء حلف الأطلنطى. أتساءل مثل كثيرين إن كان المرشح بلنكين واع تماما لأهمية وخطورة المهمة التى كلفه بايدن بأدائها وهى وبعبارات صاغها بلنكين «سوف نتدخل.. أحببنا أم كرهنا.. فالعالم ببساطة لا ينظم نفسه بنفسه..»
***
أتعامل أحيانا مع دبلوماسيين أمريكيين متقاعدين. أستفيد من تحليلاتهم الخالية من انفعالات المصلحة الشخصية وتعقيدات وحساسيات الوظيفة وإن لم تتخلص تماما من بعض دواعى الأمن القومى التى كثيرا ما تلاحق آراء ومواقف المتقاعد الدبلوماسى كما المتقاعد العسكرى. حملت الغالبية العظمى من الآراء التى سمعتها نبرة إشفاق واضحة على الوزير الجديد. يتوقعون صعوبات جمة، هى الآن فى انتظار تسلمه المسئولية. أغلب هذه الصعوبات، ويصح اعتبارها تحديات، تضاف إلى تحديات فرضتها ظروف سياسية من صنع مرحلة الانتقال الحرجة التى يمر فيها النظام الدولى. بعض هذه الصعوبات داخلى وبعضها، وقد يكون هو الأكثر عددا وأهمية، خارجى.
***
الصعوبات الداخلية، وأقصد بالداخلية تلك التى تتعلق مباشرة بظروف عمل الدبلوماسيين العاملين، وهى تعود فى الغالب إلى أسباب خمسة على أقل تقدير.
الأول، سوء المعاملة التى تلقاها الدبلوماسيون فى ظل إدارة حاكمة لا تخفى ازدرائها إياهم.
الثانى، تراجع سمعة ومكانة الخارجية الأمريكية فى نظر الإدارات ذات العلاقة بأنشطة وإنجازات العمل الدبلوماسى، والزيادة المتتالية فى معدلات تدخل البيت الأبيض وجهات حكومية أخرى فى تنفيذ مهام خارجية بعلم أو بدون علم الإدارات المختصة فى وزارة الخارجية.
الثالث، أخطاء تراكمت خلال ممارسات وزراء خارجية عينهم الرئيس ترامب مخلفة آثارا وخيمة على أسلوب العمل فى الوزارة، وأخطاء نتيجة هيمنة أسلوب الشعبوية فى الحكم على أساليب العمل الدبلوماسى، ومنها الفوضى التى ضربت السياسة الخارجية الأمريكية فى مواقع عديدة مثل كندا والمكسيك والشرق الأوسط وكوريا ومؤتمرات القمة.
الرابع، تدهور أحوال البعثات الدبلوماسية فى الخارج إلى حد الشعور بنقص الأمان فى مستقبل المهنة والأمن فى العمل. النموذج المعبر أكثر من غيره كان الأثر الناتج عن تخبط البيت الأبيض ووزراء الخارجية فى إدارة الرئيس ترامب فى الإدلاء بتصريحات متناقضة عن انتشار القوات العسكرية الأمريكية فى الخارج وبخاصة فى الشرق الأوسط وعن الوجود الأمريكى نفسه فى هذا الإقليم.
الخامس، الوضع المالى والتقتير المتوالى فى الإنفاق على بنود العمل الدبلوماسى مثل بند المعونات المخصصة لبرامج تنمية فى الدول الفقيرة وبعض الدول الحليفة.
***
هناك صعوبات أخرى تتعلق بظروف الداخل الأمريكى الضاغط بشكل غير مباشر على عمليات السياسة الخارجية منها على سبيل المثال (1) مزاج عام سائد فى كل طبقات المجتمع غير موات للتدخل فى الخارج عسكريا وماليا، ورأى مهيمن بين عناصر اتخاذ القرار فى الكونجرس وصناع الرأى فاقد الثقة فى قدرة الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصصة على أداء وظائفها، ومدرك أن الحلفاء لم يسددوا مساهماتهم على النحو المقرر وبعضهم مارس الابتزاز ضد الولايات المتحدة، (2) رأى عام غير مطمئن إلى كفاءة وأخلاقيات الطبقة السياسية الأمريكية التى قادته من فشل إلى فشل منذ انطلاق مرحلة القطبية الأحادية، الانطلاق الذى تزامن مع تفجير أبراج نيويورك، والوقوع فى براثن حروب إحداها فى أفغانستان لم تتوقف وأخرى جلبت على أمريكا الاستنكار والخزى، وهى حرب العراق التى لطخت أكثر من غيرها صورة أمريكا ومنظومة قيمها، وانتهاء بظهور قوى وتيارات شعبوية وقومية متطرفة وجماعات بميول عنصرية. كلها وغيرها اشتركت فى تشكيل ضغوط انعزالية.
***
أما الصعوبات الخارجية التى تنتظر السيد بايدن ووزير خارجيته ومعاونيهما فلا تخفى أهميتها على قارئ السياسة الدولية سواء كان فى روسيا أو الصين أو فى قاعات الدرس فى هارفارد وصالات الحوار فى مراكز العصف الفكرى. أولها وأهمها حال الفوضى الراهنة فى العلاقات الدولية التى لم يشهد العالم مثيلا لها ربما منذ سنوات سبقت الحرب العالمية الأولى وسنوات ما بين الحربين العالميتين وسنوات صعود الثورة البلشفية والفاشيات الأوروبية وتجربة الانعزال الذاتى الأمريكى.
الصعوبة الثانية، وهى أيضا من أهم التحديات التى تنتظر الإدارة القادمة، هى حال نظام التحالفات الذى التزمته الإدارات السابقة منذ أواخر الأربعينيات والذى تعرض فى السنوات الأخيرة لتشققات واضحة ولأسباب متباينة. الحلفاء مختلفون فيما بينهم وهم أيضا، أو فى أغلبيتهم الساحقة، مختلفون حول إدارة الفراغ الذى خلفه غياب أمريكا عن ممارسة دور القيادة خلال عهد الرئيس ترامب. هم مختلفون أيضا حول ما هو أهم كثيرا من مسألة الأنصبة المالية وتوزيع المهام الأمنية، مختلفون حول الجوهر الأيديولوجى للتحالف، أقصد الالتزام بالديمقراطية. هناك الآن انشقاقات واضحة حول هذا الأمر. الأوروبيون مختلفون أيضا مع الدولة العميقة فى أمريكا وفيما بينهم حول العلاقة مع روسيا. هذه المسألة التى تأبى إلا أن تكون الركن الركين فى علاقات القوى العظمى سواء كان الشيوعيون فى الحكم فى موسكو أو كانوا من القوميين غير الشيوعيين.
الصعوبة الثالثة سوف تقابل حكومة بايدن فور تسلمها السلطة. فقد نجحت إدارة ترامب وعدد لا بأس به من ممارسات حكومة بكين الداخلية والخارجية على حد سواء فى تعزيز الشكوك فى عدائها للولايات المتحدة. الصين، حسب أى تعريف سائد، هى الآن عدو للولايات المتحدة. رضيت واشنطون واستعدت أم لم تستعد. الظاهر على كل حال أن بايدن ومساعدون سوف يجدون حلفاء أمريكا فى جنوب شرق آسيا، بفضل «تهريج» ترامب ووزرائه، منفرطين بما سمح لبكين بتأكيد استعداداتها لفرض الهيمنة على الإقليم، وإعلان تحديها لاستراليا منافسا لها أو عدوا.
التحدى الرابع أو الصعوبة الرابعة، يعرف بايدن وبلنكين الشرق الأوسط حق المعرفة، أحدهما لخبرة طويلة فى مجلس الشيوخ ثم نائبا لأوباما فى الحكم والثانى ممارسا عن قرب لبايدن سنوات عديدة فضلا عن، وهو الأهم ربما، ولاءه المزدوج، وهذا ليس اتهاما بل واقع عاطفى علمتنا تجارب القرن وصراعات الشرق الأوسط أن نحسب له ألف حساب. ومع ذلك أظن أنه رغم التعقيدات التى سيخلفها الرئيس ترامب وعائلته فى قضية الصراعات الإسرائيلية العربية والشرق أوسطية بشكل عام إلا أن بايدن ووزير خارجيته لن يستطيعا المساس بمكاسب إسرائيل التى حصلت عليها خلال الأسابيع الأخيرة من حكمه.
***
كثيرة وصعبة التحديات التى تنتظر السيد جوزيف بايدن وجماعته، تزداد صعوبتها إذا أضفنا إليها غزوة فيروس الكورونا والمشكلات الكونية الأخرى، وأضفنا أيضا المقاومة الشرسة التى يستعد السيد دونالد ترامب لمباشرتها بمساعدة جماعات مصالح بعضها لن يتردد فى استخدام العنف لتحقيق حلم استعادة أمريكا الدولة الأعظم.
الاقتباس
الحلفاء مختلفون فيما بينهم وهم أيضا، أو فى أغلبيتهم الساحقة، مختلفون حول إدارة الفراغ الذى خلفه غياب أمريكا عن ممارسة دور القيادة خلال عهد الرئيس ترامب. هم مختلفون أيضا حول ما هو أهم كثيرا من مسألة الأنصبة المالية وتوزيع المهام الأمنية، مختلفون حول الجوهر الأيديولوجى للتحالف، أقصد الالتزام بالديمقراطية.