توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قديم يتنحى وقديم لا يغادر

  مصر اليوم -

قديم يتنحى وقديم لا يغادر

بقلم - جميل مطر

نبالغ، نحن كبار السن، فى إعلان عشقنا للقديم. نعشق سينما الأبيض والأسود ونحث صغارنا على مشاركتنا هذه المتعة المتجددة. أثق فى أن كثيرا من الآباء والجدود اجتهدوا فى ابتكار مبادرات وهم يحاولون شد انتباه الصغار إلى بعض القديم الذى عشقناه. أنا شخصيا اجتهدت وحاولت. كانت الاستجابة فى معظم الحالات ضعيفة ولا تخلو من رغبة فى إرضاء كبير العائلة واحترام رغبته. أخفيت عنهم، ولكنى لن أخفى عن أوراقى الخاصة، أننى كنت فى كثير من الأحيان مفعما بالرغبة فى ألا تفوتهم فرصة للاستمتاع بما أتيح لى من أنواع متعة فى الماضى. كنت أيضا مشبعا بالاقتناع بأن الجديد الذى يشاهدون ويسمعون كل يوم وطول اليوم غير مثير وغير ممتع وأنهم فى واقع الأمر غير سعداء به.

***

أذكر كيف كنت أفتعل المناسبات لنجتمع أمام شاشة التلفزيون أثناء عرض فيلم قديم صامت وأحيانا ناطق. كثيرا ما لمحنى الصغار خلال العرض وأنا أسترق النظر إليهم من طرف عينى أراقب بخيبة أمل عجزهم عن استظراف مشية ممثل معين وتعبيرات وجهه. كان هذا الممثل بالتحديد مشهودا له من الكافة فى عصرنا بخفة ظله وروعة أدائه. افتعلت مناسبات أخرى أقنعت فيها صغارى، على غير المعتاد وخلافا لما جرت عليه أصول التربية فى بيتنا، بقضاء السهرة العائلية المزودة بصحون المأكولات الخفيفة والمكسرات معنا يشاركوننا متعة الاستماع إلى أم كلثوم.

أخطأنا التقدير. لم نقدر حقيقة أن لهؤلاء الصغار جديدهم فى السينما، كأفلام الألوان الطبيعية ورعاة البقر والاستعراضات الراقصة. لم نقدر أيضا أن لهم جديدهم كذلك فى الموسيقى والأغانى. لم نقدر فى ذلك الحين أن الأذواق لا تورث، وأنها متغيرة دائما وأبدا، متغيرة مع الزمن ومع المرحلة العمرية ومع جغرافية المكان وأجوائه المناخية ومتغيرة مع الظروف المادية والنفسية وبخاصة الظروف العاطفية.

خلصت من تجاربى مع الصغار إلى نصيحة أوجهها لكل من يهمه الأمر. لا تجبر صغارك على الاستماع أو مشاهدة القديم الذى تعشقه. لن تكسب لقديمك معجبين جددا، هذا إذا لم تكن قد فقدت بالفعل عند صغارك وأصدقائهم سمعة ذوقك الرفيع ومكانتك الراقية كمحب للفنون وربما راع لها. حاول أن تستعيد دورك عندما كنت تمجد أمامهم خصال التقدم والقيم والأذواق العصرية وتسفه كل قديم من السلوكيات.

***

سألتنى صديقة: كنت صغيرة عندما تعرفت عليه. كنا فى عرس صاخب ككل الأعراس أشارك أهلى المائدة التى خصصت لنا. أذكر أننى كنت سعيدة بشكل خاص فى تلك الليلة ليس فقط لأن أقرب قريباتى إلى قلبى ومكمن أسرارى تتزوج، ولكن أيضا لإحساسى الأكيد بأننى متفوقة على الكثيرات جمالا وأناقة. لم أكن ليلتها فى حاجة لمن يلح من الصديقات والقريبات وأمى بشكل خاص لأنضم إلى الزهرات اللائى يشاركن العروس والعريس الرقص. رقصنا ورقصنا فأبدعت وبين الراقصين معنا ومن حولنا رأيته وصعقت انبهارا. لم أجد صعوبة فى فتح حديث وتبادل كلمات بلا معنى، بل ولا أذكرها الآن. لم أنتبه إلى وجود أهلى إلا عندما جاءتنى فى الحديقة من تنبهنى إلى أنهم يبحثون عنى لنرحل عائدين إلى بيتنا، وكان الفجر قد حل.
لم أتزوجه. تزوجت رجلا آخر لم تربطنى به قبل الزواج عاطفة. قضينا معا ما يزيد على خمسة وعشرين عاما ننجب ونربى. عشت حياة، أو المرحلة الأهم فيها، خالية من الإثارة. تمر السنوات ولا يحدث جديد. يقترب الصيف وأنا أكاد أكون واثقة من تفاصيل تحركاتنا خلاله يوما بيوم ولا أبالغ إن قلت ساعة بساعة. ولن يختلف الشتاء عن الشتاء الذى سبقه.
أعتذر يا صديقى عن هذه المقدمة الطويلة. أردت فقط أن أحيطك بخلفية السؤال الذى نويت التوجه به لك. أردت فقط أن أعرف منك توقعك لما يمكن أن أفعله لو ظهر أمامى فجأة الشاب الذى صعقتنى انبهارا رؤيته فى عرس قريبتى قبل أكثر من ربع قرن. هل تظن أنه بقى فى من هن فى مثل عمرى وظروفى ما يمكن أن يدفعهن إلى الانبهار؟ سؤالى هذا يجر معه سؤالا ثانيا وأهم وأعرف تماما أنك توقعته. لا شك عندى أنك توقعت منى أن أسأل السؤال بنصه التالى: لماذا ترانى سألت السؤال الأول؟

***نعم. بقى فى من هن وهم فى مثل عمرك وظروفك ما يمكن ويكفى لدفعهن ودفعهم إلى الانبهار، ولكن ليس إلى الانبهار بقديم. الإنسان منا، حسب اعتقادى وتجربتى، لا ينبهر إلا بالجديد. أنت لا تنبهرين بالقديم لأن الانبهار استغراب، والإنسان لا يستغرب الشىء مرتين. لن تنبهرى بالقديم مرة ثانية. القديم بعد قليل يتحول إلى نماذج نتوق لها ويستمر أعجابنا بها لما تثيره فى نفوسنا من أشجان وأشواق. لن يتجدد انبهارنا بالقديم فالقديم لن يعود إلينا طبق الأصل إلا إذا احتفظنا به مجمدا فى مكان لا يتعرض فيه لقيظ السنين وصقيعها أو لتقلبات الحياة ونكساتها أو لخيانات الدهر والبشر، ولن نفلح حتى لو شئنا. كذلك لن يعود القديم كقديمه تماما إلا إذا سجلناه صوتا أو صوتا وصورة أمناء عليه فلا يتغير وإن تغيرنا. وقد تغيرنا. نستعيد القديم خاليا من العاطفة وخيالاتنا متوقدة العواطف. وإليك أعود.

أنت نفسك تغيرت. أؤكد لك أنك لم تحتفظى بنفس ذوقك فى الرجال الذى دفعك ذات يوم قبل خمسة وعشرين عاما للإعجاب برجل إلى حد الانبهار. أما الرجل فهو كغيره من الرجال سرعان ما فقد المواصفات التى كانت فى ليلة من الليالى وليال أخرى وراء انبهارك. تغيرتما. كلاكما لا ينفعه الآن ولن يشبعه قديمكما.

***

أتذكرين عندما كنت تقولين عن الرجال يعجبنى منهم الأكبر سنا والممتلئ قليلا وخفيف الشعر. أنت الآن تفضلين أنواعا مختلفة. القديم يتنحى عن مكانه فى أولوياتك لصالح جديد أتى بالفعل أو ربما آت. هكذا حال كل قديم. أستثنى القديم من الموسيقى والرسم والتصوير والنحت والغناء. هذا النوع من القديم يزداد روعة وجمالا ويتضاعف الطلب عليه كلما ازداد قدما. أتسمعين ما أسمع الآن. أسمع صوتا خلابا يشدو بكلمات تختتم أوبرا مدام بترفلاى. أمثل هذا القديم يجوز أن يتنحى لصالح جديد؟

نقلا عن الشروق القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قديم يتنحى وقديم لا يغادر قديم يتنحى وقديم لا يغادر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon