الجو في ميونيخ بارد ورمادي، أما الجو في قاعات المؤتمر وصالات الطعام وأجنحة المقابلات فأبرد وأكثر كآبة. أتحدث عن مؤتمر الأمن الأوروبي الذي انعقدت آخر دوراته الأسبوع الماضي، وأنقل عن بعض المراسلين مقارنتهم حال الطقس في ميونيخ هذه الأيام بحاله في العام الماضي من ناحية وبأجواء المؤتمر من ناحية أخرى. بعث مراسل لصحيفته تقريراً من داخل المؤتمر بعد أن دار على عدد من الجلسات واستمع إلى عشرات الخطب والمداخلات والتقى مئات المسؤولين، بينهم جنرالات ووزراء خارجية وعملاء استخبارات وأنواع من خبراء الاستراتيجية بعدد ألوان قوس قزح. بدأ تقريره بثلاث ملاحظات عن المؤتمر هي أنه مثير للاكتئاب وغير مهم ولكنه غير ممل. مقدمة كهذه لتقرير صحافي عن مؤتمر، لعله الأهم من كل مؤتمرات الأمن والدفاع، كافية لتثير فضول المتخصص والباحث عن تسلية على حد سواء.
***
جاء في مختلف التقارير والتسريبات من داخل الفندق الذي ينعقد فيه المؤتمر أن هذه الدورة، دورة 2018، اشتملت على نحو 30 لجنة فرعية وعلى أكثر من 1000 لقاء ثنائي. المؤتمر الذي انطلق في الأساس من أجل مناقشة قضايا تتعلق بالأمن الأوروبي جاءت دورته لهذا العام مخيبة لأحلام وآمال آبائه المؤسسين. جرت العادة في الدورات السابقة على أن يكون حضور المسؤولين والمراقبين والصحافيين للجنة المتخصصة في شؤون حلف الأطلسي كثيفاً، امتنعت هذه العادة في هذه الدورة فإذا بالقاعة المخصصة للناتو تكاد تخلو من الحضور. المغزى مهم وتداعياته والاستنتاجات المترتبة عليه أهم. لاحظ الصحافيون في الوقت نفسه ازدحام القاعة التي خصصت لمناقشة قضايا التكنولوجيا والثورة الرقمية.
واحدة من المقارنات التي حفلت بها تعليقات المعلقين كشفت أن هذه الدورة افتقرت إلى النجوم، ولعل هذا النقص هو الذي دفع بصحافيين إلى الحكم على الدورة بالبرودة. لم يكن بين الحضور قادة من مثيري الجدل أو شخصيات لديها شيء مهم تقوله أو على الأقل يضيف جديداً. كان لافتاً للانتباه على سبيل المثل أن الصين لم ترسل وفداً على مستوى عالٍ. أستطيع مثل غيري، وهم كثيرون، أن أبرر هذا التدني في مستوى تمثيل الصين بأنه يعود إلى أنها، أي الصين، ربما قررت أن المؤتمر أوروبي الاختصاص، وبالتالي لا يهمها بالقدر الذي يجعلها تبعث بوفد غير عالي المستوى. لم أفعل طبعاً بسبب تساؤل واقعي سرعان ما طرح نفسه. تساءلت عما إذا كان يوجد في الساحة الدولية موقع أو حدث لا يهم الصين الآن بقدر معتبر، أو لا يدخل في اختصاصها أو لا يتشابك مع شبكة مصالح صينية معقدة ومترامية الأطراف.
***
دورة غير مهمة وفي الوقت نفسه غير مملة. أفهم دوافع الصحافي الذي خرج بهذا الوصف أو الحكم على الدورة. لقد اتسمت الدورة بعلامات أو سلوكيات غير عادية مثل الصراحة المبالغ فيها أحياناً من جانب كثير من المتحدثين في الجلسات العامة وجلسات اللجان على حد سواء. ماكماستر مثلاً كان صريحاً ومباشراً عندما أعلن أن الولايات المتحدة تخطط لتطوير وإنتاج صواريخ نووية تكتيكية لردع روسيا. هذا التصريح اعتبرته أنا شخصياً تمهيداً لإعلان نهاية نظام الرقابة على التسلح، وهو النظام الذي ساهم في منع نشوب حرب عالمية ثالثة على امتداد سبعين عاماً. نتانياهو لم يفاجئ أحداً بتدهور حالته النفسية حين افتعل تمثيلية سخيفة عن حرب سوف تشنها إسرائيل على الداخل الإيراني إذا استمر وجود إيران في الأراضي السورية، تمثيلية انتهزها وزير خارجية إيران ليهدد بدوره من يحاول المساس بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع المجتمع الدولي. من ناحية أخرى، أطل فرانسوا هايسبرغ رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية على المؤتمر بنبوءة تنذر بأن «البودرة» التي تراكمت فوق سطح العلاقات الدولية خلال العام الأول من ولاية دونالد ترامب صارت الآن جاهزة للانفجار في أي وقت. تركيا من ناحيتها كشفت العمق الذي تدنت إليه علاقاتها بحلفائها في حلف الأطلسي وأصدقائها في الاتحاد الأوروبي، وبولندا اشتكت من سوء التعامل معها والتدخل في شؤونها الداخلية من جانب حلفائها الأوروبيين. لا يخفى أنه في هذه الحالات وغيرها يتكشف أن عدم الثقة بين أعضاء المنظومة الغربية أصبح عامل تخريب في الحلف الغربي أكثر من أي عامل سلبي آخر. أورد هنا مثالاً آخر يؤكد ما ذهبت إليه، إذ إنه حين يصر المتحدث باسم ألمانيا على تكرار مقولة «إننا لا نرى أميركا التي كنا نعرفها» يصبح منطقياً الاستنتاج بأن الحلف الغربي في مأزق حقيقي، وأن ما فعله ترامب بالسياسة الخارجية الأميركية في عام واحد فاق التوقعات منذ بدأت تتضح بعض المؤشرات الى مستقبل دور الغرب في معادلة الأمن الدولي وقيادة العالم.
***
أحسن منظمو المؤتمر، حين اختاروا لهذه الدورة عبارة «الوصول إلى الحافة» عنواناً فرعياً أو جانبياً أو مكملاً لعنوان هذه الدورة.
أولاً: لم يحدث، استناداً إلى ذاكرتي، أن كان النظام الدولي كما عرفناه منذ نحو ربع قرن في مثل حال الفوضى التي يعيش فيها عالم اليوم. نظرياً، وربما عملياً، لا تزال الولايات المتحدة تقود العالم، وفي الوقت نفسه نرى واشنطن عاصمة الدولة القائد، نراها مضطربة ومنقسمة على حالها وغير واثقة من نفسها والعالم الخاضع نظرياً لهيمنتها فاقد الثقة فيها.
ثانياً: فشلت أميركا بصفتها الوسيط في صراع إسرائيل والعرب، أو بصفتها الدولة العظمى والأقوى في العالم، أو بصفتها راعي إسرائيل وحاميها هي وعدد غير قليل من الدول العربية، في التوصل إلى تسوية سلمية.
ثالثاً: فشلت أميركا في تشكيل حلف قادر ومتماسك ضد كوريا الشمالية. هذا الفشل فتح الباب أمام العالم لتدخل دول أكثر عدداً في عضوية نادي الدول الحائزة على القوة النووية، بكل ما يحمل هذا الاحتمال من تداعيات خطيرة تغير جذرياً في نظريات وتطبيقات الأمن الدولي والإقليمي.
رابعاً: ظل مثيراً للنقاش والدهشة فشل المجتمع الدولي في تسوية النزاع الناشب داخل مجلس التعاون الخليجي، على رغم الأهمية الكبرى للخليج لمصالح أمن دول أخرى كثيرة. لم يخف أعضاء كثيرون استنكارهم تلكؤ المنظمة الإقليمية العربية في حل هذه الأزمة ومنع استفحالها وإلقاء مسؤولية تسويتها على المجتمع الدولي المثقل بمشكلات وأزمات عديدة. على رغم ذلك، كان واضحاً لدى عدد آخر محدود من الخبراء حقيقة أن أزمة الخليج جزء لا يتجزأ من أزمة النظام الدولي الراهن، وأنه طالما ظل النظام الدولي غارقاً في الفوضى والافتقار إلى الرؤى فسوف تبقى جامعة الدول العربية وربما منظمات إقليمية أخرى صوراً باهتة لتكتلات إقليمية نشأت في ظروف مختلفة وقد آن أوان تحولها إلى هياكل أخرى بمــغزى ومعــانٍ وأهــداف مختلفة.
خامساً: لم تفلح ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من الدول العربية في إثناء إيران عن الاستمرار في تنفيذ خطط توسعها في الشرق الأوسط. أسباب الفشل هنا معروفة، أهمها على الإطلاق هو الغرب المنقسم على حاله في هذه القضية كما في غيرها. لا ننسى ونحن نبحث في أسباب أخرى أنه كما أن صعود قوة عالمية كالصين وقف حائلاً دون إقامة حلف عالمي موحد ضد كوريا الشمالية، فقد آن لنا أن نعترف أيضاً بأن التقدم الملموس الذي تحرزه قوة عالمية أخرى، هي الاتحاد الروسي، لاستعادة مكانتها في القمة الدولية، وقف حائلاً دون إقامة حلف موحد ضد إيران أو السماح بشن حرب عليها.
***
تدفعني حلقات الفشل المتواصل في تسوية نزاعات دولية خطيرة والتدهور الملحوظ في أداء مؤسسات ووساطات دولية إلى الشك في قدرات الديبلوماسية المعاصرة على حل مشكلات لم تتأهل لها. نعرف من خلال الاحتكاك بخبراء ومتخصصين في منظومات السياسة الخارجية في دول نامية ودول متقدمة صناعياً وتكنولوجياً أن الديبلوماسية، كمهنة وتخصص وأداء، تتعرض في بلادهم للإهمال. بعض أصدقاء من هؤلاء الخبراء تطوعوا بتفسيرات لهذه الحالة المتفاقمة وكلها تحتاج إلى الاختبار والتيقن. الديبلوماسية، في رأيهم، تتدهور ودليلهم المهم مع مؤشرات عديدة في السنوات الأخيرة، هو ميونيخ 2018.
نقلا عن الحياة اللندنية