توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بين ذات وذات أخرى

  مصر اليوم -

بين ذات وذات أخرى

بقلم - جميل مطر

زميلة مهتمة بالكتابة وحوارات الرأى ودور الدولة فى صنع أو حرف الرأى العام اتصلت بى قبل أيام لتنقل خبر وصول الدكتور هنرى كيسنجر إلى العاصمة الصينية. أذكر أننى سألتها عن مستوى الاستقبال ونوعه وطبيعة المرافقين وهوياتهم وهوية الطائرة التى حملتهم. أذكر أيضا، وتذكر زميلتى بدون شك أننى وأنا أستأذنها فى إنهاء المكالمة علقت على الخبر قائلا «الراجل ده حيجننى».
• • •
وصل خبر وصول كيسنجر إلى بكين بينما كنت منشغلا بالمقارنة بين طموحات الإنسان فى مرحلة مبكرة من حياته وبين طموحاته فى مراحلها المتقدمة جدا. هذا الرجل الذى بلغ المائة من عمره يركب طائرة مع هيئة مكتبه متوجها إلى الصين عارضا مبادرة من صنعه أو جاهزا لتنفيذ مبادرة موحى بها إليه من واشنطن أو من الصين أو من كليهما معا. هذا الإنسان لم تنطفئ بعد لديه شعلة الإبداع. لماذا لم تنطفئ أو تخبُ عنده وتنطفئ أو تخبو عند كثيرين غيره؟ ثم ما نوع هذه الطاقة الداخلية التى تستطيع أن تبقى هذه الشعلة مشتعلة سنة بعد سنة وتحولا بعد آخر فى معادلة توازن القوى وفى حال السلم والأمن الدوليين. هل لما يفعله الإنسان فى بداية حياته أثر على ما يحققه فى نهايتها؟
• • •
تختلف الآراء بين من يقول ويعتقد أن الامتداد قائم ومستمر بين المرحلة الأولى من تشكل الإنسان وبين المرحلة أو المراحل الأخيرة، وهناك من يعتقد أن المراحل الأخيرة بعيدة الصلة عن المبكرة أو لا تمت لها بصلة. أهتم بهذا الموضوع اهتماما خاصا فأنا واحد من كثيرين اقتربوا بالفعل من ولوج باب من أبواب المرحلة الأخيرة أو لعلنى واحد من قليلين فتحوا بابا من هذه الأبواب عنوة وبعزم وهم على يقين من أن ما فعلوه متصل بكل تأكيد بما قرروه وخططوا له أو على الأقل فكروا فيه وهم يجتازون الخطوط الفاصلة بين الطفولة والمراهقة.
• • •
للكاتب الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس كتاب شهير بعنوان «الآخر». أما الآخر الذى يقصده بورخيس ليكون عنوانا لروايته فهو الإنسان عندما يصل إلى مرحلة متقدمة جدا من حياته. بهذا المعنى يقصد أن إنسان المرحلة المتقدمة من العمر مختلف جدا عن إنسان المراحل الأولى. أتفق مع الرأى القائل إن المرحلتين ليستا بالضرورة متكاملتين ولا متواصلتين ومع ذلك فليستا بالضرورة متناقضتين ولا متنافرتين. العلاقة بينهما يمكن أن تكون كالعلاقة بين ذات وأخرى متنافستين. إحداهما تعالوا نسميها «ذات الماضى» والأخرى «ذات الحاضر».
قرأت أن بعض علماء النفس اهتم بصراع أو تنافس الذاتين، ذات الماضى وذات الحاضر، سعيا وراء حلول أو علاجات لانحرافات طارئة قد تصيب الشخصية فى مسيرتها العمرية. تكاد «ذات الحاضر» وهى تستعد لتبوء مكانتها فى المرحلة الأخيرة من العمر تلقى باللوم على «ذات الماضى» البعيد مسئولية الإهمال فى التخلى عن ممارسة التمارين الرياضية وتناول الأغذية المفيدة للصحة وفى وقف التدخين، ومسئولية التقصير فى اكتناز المدخرات، وعدم الإقبال على تحصيل العلم، والتقاعس عن زيادة حصيلة المعلومات، وغيرها من التصرفات التى تسببت فى أن يصل الإنسان إلى مرحلة النهاية غير لائق لظروفها الصعبة أو غير مستعد لأحلامها الكبار. نعيب أحيانا على ذاتنا المبكرة تفضيل المتعة الوقتية والعاجلة على المتع الأطول أمدا والأغلى استحقاقا التى يمكن أن تتاح للذات الثانية، الذات المؤجلة التى أطلق عليها الكاتب العظيم والمحروم من نعمة البصر وصف «الآخر»، أى الغريب والبعيد والمنزوع الهوية والجذور.
• • •
لن أكون بين من يحملون المسئولية كاملة «للذات الأولى» وأقصد الإنسان فى مرحلته المبكرة من العمر. فالأهل أيضا مسئولون والمجتمع والتقاليد. صحيح أننا نشأنا بين جدران وحول أثاثات مزدانة بصور كبار السن من أجدادنا وشيوخنا الأجلاء يبدون فيها متعبين ومنحنى الظهور. أغلبهم فى الصور رافل فى ثياب أوسع مما تستحق أجسادهم وبعضهم محتاج إلى من يرشده إلى الطريق السوى متجنبا حفراته ومطباته، وكثيرات وكثيرون يظهرون فى الصور متكئين دائما إلى عصى أو إلى ظهور مقاعد خشبية ثقيلة الوزن وبين أرجلهم أطفال من الذات الأولى يرتدون الزى الرسمى لضباط فى الجيش. تظهر الجدات والجدود فى الصور وكأنهم أفلتوا من مطاردة زمن ولى أو باعتبارهم كائنات بلا أدوار وأحلام وطموحات. صرت أعتقد أن جيلنا يجب أن يقف متفاخرا فى صدارة أجيال جديدة حطمت بنجاح أسوارا كانت تفصل بين ذوات العمر الواحد. أجيال كسرت قيودا وأزالت أوهاما رسمت لكبار السن فى ذاكرة الأطفال وأبناء وبنات الذات المبكرة صورا ذهنية حقيقية لأقاربهم من رجال ونساء متقدمين ومتقدمات فى العمر.
دانيا تقول عنى إنها عندما تقرأ لى أو تناقشنى فى أمور حياتية تخصها وتخصنى لا تشعر وهى حفيدتى ابنة العشرين أنها تتناقش مع أو تقرأ لإنسان مختلف أو غريب أو «واحد من الآخرين» كما وصفهم بورخيس وأيده فى هذا الوصف جيل من علماء النفس. لم نعد نحن أبناء وبنات «الذات الأخرى» غرباء. لم نعد نحن كبار السن فى مخيلة جيل الشباب مجرد كائنات أخرى منبتة الصلة عنهم. بمعنى آخر لم نعد «ذاتا أخرى».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين ذات وذات أخرى بين ذات وذات أخرى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon