توقيت القاهرة المحلي 20:04:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كنوز لا نحسن استثمارها

  مصر اليوم -

كنوز لا نحسن استثمارها

بقلم - جميل مطر

بحكم التقدم فى السن وفى الخبرة وتنوع الاهتمامات صرت أجالس من المتقاعدين فى كل مجال نسبة أكبر إذا قورنوا بغيرهم من فئة المعارف والأصدقاء. وبحكم العناصر نفسها مضاف إليها عنصر اهتمام مشترك لاحظت أن لمتقاعدى العمل الدبلوماسى النصيب الأكبر بين من أجالس باختيارى أو اختيار آخرين. أقصد بالدبلوماسى المتقاعد الشخص الذى ترك الخدمة الدبلوماسية بوصوله إلى سن التقاعد وليس كل من حاز على نصيب من الخبرة فى قواعد وأصول السياسة الخارجية وليس كل من امتهن نشاطا أطلق عليه صفة الدبلوماسى. من الأنشطة الأخرى المحسوبة على الدبلوماسية وهى ليست كذلك العمل الأكاديمى بحثا أو تدريسا والانخراط فى منظومة المؤسسات الدولية الإقليمية والكتابة والقراءة المنتظمة والمتعمقة فى أدبيات السياسة الخارجية بفروعها المتعددة.
محسوبة أيضا أجهزة فى الدولة دأبت على تقليص المساحة الأصلية التى كانت من نصيب الجهاز المكلف بإدارة الشئون الخارجية. شىء من هذا التقليص حدث متدرجا فى تطور العلاقة بين وزارة الخارجية البريطانية وأجهزة العمل السرى التى اشتغلت فى حماية أمن واتساع أطراف الإمبراطورية البريطانية التى لم تكن الشمس تغرب عنها، وأظن أن الشمس نفسها تعود الآن بعد غياب نصف قرن أو أكثر، أى منذ الانسحاب الكبير من شرق السويس، تعود لتشارك بخبرتها التاريخية فى عملية جارية الآن بالتخطيط أو التنسيق بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا المتحمسة ونيوزيلندا المترددة لإنقاذ ما تبقى من آخر إمبراطورية أنجلو سكسونية.
ينصب اهتمامى هنا على المتقاعدين فى خدمة العمل الدبلوماسى الرسمى، ففى ظنى وجل اهتمامى أنهم ثروة أهملتها حكومات مصرية وعربية تعاقبت خلال معظم سنوات القرن الأخير وأعتقد أننا ندفع الآن من استقرار وأبعاد نفوذنا الإقليمى والدولى ثمنا باهظا لهذا الإهمال.
أذكر أننى قبل سنوات عديدة دخلت فى حوار مفيد مع شخصية جليلة تولت مناصب هامة للغاية فى قيادة العمل الدبلوماسى المصرى. اتصل الحوار بمذكرات سجلها فى كتاب نشرته له دار نشر كبرى. اتصل الحوار أيضا بعرض نقدى لهذه المذكرات كتبته ونشرته لى دورية عربية متميزة. كان عاتبا فى تعليقه على ما كتبت. قال ما معناه أننى يجب ألا أنتظر من مسئول كبير أن يكتب فى مذكراته تفاصيل أحداث ولقاءات أجراها واجتماعات أدارها وخفايا سياسات وأدوات من خارج الدبلوماسية أستخدمها لتحقيق أهداف الدولة ومصالحها. حجته أن العمل الرسمى سر من أسرار الدولة ولا يجوز البوح به أو إعلانه فى وقته أو خارج وقته مهما طال الزمن. حجتى تلخصت فى أن المذكرات لم تقدم للقارئ العادى ما يشجعه على مواصلة القراءة حتى آخر صفحة فى الكتاب. أما القارئ المتخصص، وأقصد الموظف الدبلوماسى، فلن يجد فى المذكرات ما يمكن أن يمثل إضافة إلى مخزون معلوماته عن إدارة مهام السياسة الدولية ولا هى تقدم درسا أو دروسا فى صنع القرار فى السياسة الخارجية، ولا هى تملأ فراغا فى بحث يجريه باحث انشغل بدراسة عملية صنع السياسة الخارجية وأدوات تنفيذها. ولا هى تغنى باحثا آخر مهتم بإجراء المقارنات الضرورية بين دبلوماسيات متعددة ومختلفة بغية المساهمة فى التوصل إلى نظرية عامة فى علم العلاقات الدولية واستراتيجيات الأمن والسلم الدوليين. لم أعد أتساءل بعد الحوار عن أسباب ودوافع اتجاه مختلف الدبلوماسيين والمعلقين الأجانب إلى قراءة مذكرات هنرى كيسنجر وجورج كينان وونستون تشرشل وأمثالهم وترددهم فى أو امتناعهم عن قراءة مذكرات أقران هؤلاء من الرسل والسفراء والوزراء والمبعوثين الرسميين وصناع السياسة فى مصر والعالم العربى.
• • •
عودنى القارئ المدرب على قراءة مذكرات بعض كبار المسئولين على أنه يقرأها باحثا عما أخفاه كاتب المذكرات بين السطور أو احتفظ به لنفسه حماية له من غدر غادر وشر كاره أو منافس أو تنفيذا لقواعد انضباط نشأ عليها وصعد بفضلها إلى أعلى المناصب. يعلم هذا القارئ المدرب أن المسئول السابق وقد صار متقاعدا غالبا ما ينتهى من كتابة ونشر مذكراته مطمئنا إلى أن القارئ المدرب لا شك يدرك أن ما خفى عنه فى المذكرات أعظم وربما كان هو نفسه شاهدا حيا على بعض مراحلها. فهمت من أحاديث أجريتها مع أكثر من مسئول قضى بعض عمره مكلفا بمسئوليات دبلوماسية وهو ليس من أهلها أن كاتب المذكرات لا بد أن يحسب لاعتبارات الجاه والمكانة حسابات منفصلة. لمح أحدهم إلى فكرة لا تغيب عن ذهنه أثناء الكتابة وهى أنه سوف يحصل من القادة الأكبر والأقدم فى تراتيب القيادة على تقدير متناسب مع حجم ما أخفاه من معلومات فى مذكراته وليس مع حجم ما أعلن من أسرار وكشف عن خفايا وشرح من غموض. لا يدرك هؤلاء أن أكثر ما احتفظ به الكاتب من معلومات تعامل معها كأسرار لا يجوز نشرها هى بعيدة كل البعد عن كونها تستحق هذه الصفة فضلا عن أن الغالبية العظمى من المعلومات غير العسكرية فى كافة الشئون وليس فقط فى شأن الدبلوماسية صارت أسرارا معلنة ومنشورة بتفاصيل مذهلة. ودليل ذلك، ولأسباب أخرى، يتعامل الناس العاديين مع أعضاء النخب من صناع السياسة، كما يتعاملون مع نخبة نجوم الفن والسينما، باعتبارهم موضوعات إعلامية دسمة بحساب ما أخفوه من حكايات ومشاكل وأزمات كانوا أطرافا فيها أو شهودا عليها.
أمامنا النموذج فى المجتمع السياسى الأمريكى الذى يعيش اليوم متفرجا على تداعيات هذا الصراع الأبدى على الأسرار فى آخر إصداراته، أقصد السباق الإعلامى الراهن فى الولايات المتحدة للحصول على مضمون ما أخفاه أو حاول إخفاءه الرئيس السابق دونالد ترامب من وثائق رسمية ومعلومات عن مؤامراته ضد نظام الدولة وما أخفاه أو يحاول أن يخفيه الرئيس جو بايدن من تفاصيل فساد واسع النطاق داخل عائلته وتسريب معلومات رسمية سرية الطابع. هذا المجتمع غريب الأطوار صار فريسة سهلة للاستقطاب الحاد، نصفه ينحاز لجانب الشيطان فى أى قضية تطرح عليه ونصفه الآخر ينحاز لجانب الملائكة ولو لبرهة قصيرة. بالصدفة المحضة نعيش هذه اللحظة مع آخر استقطاب أمريكى حول ما يكشفه ببراعة متناهية مخرج الفيلم السينمائى عن قصة أوبنهايمر، صانع القنبلة الذرية، وعن حروب الأسرار بين قوى وأقطاب الدولة الأعمق فى أمريكا. الأمر الأشد غرابة فى هذا الاستطراد هو حالة الاستقطاب حول هذا الفيلم فى المجتمع السياسى المصرى. فمن حيث الشكل تبدو القضية لا تمس جانبا من تاريخنا ولكن من حيث المضمون يغوص موضوعها.
حتى الأعماق فى تفاصيل نخشى تداعياتها على حياتنا، تفاصيل عن حروب الأسرار التى تنشب فى عالمنا العميق بين قوى لا نعرفها أو نعرف عنها القليل غير المفيد، وتفاصيل عن حروب وإن مكتومة الصوت إلا أنها باهظة التكلفة طويلة الأجل.
• • •
لدى أكثر المتقاعدين من الدبلوماسيين المصريين وغيرهم من الدبلوماسيين العرب ما يستحق أن يروى. أتمنى أن أراهم وقد أقدموا الواحد بعد الآخر والواحدة بعد الأخرى على كتابة مذكرات عن حيواتهم وحيواتهن فى هذه المهنة التى لم تحصل بعد على حقها وعن دورها فى عالم السياسة الخارجية المصرية. لم نقرأ حتى يومنا هذا مذكرات تكشف من واقع المعايشة والمشاركة الفعلية بعض حقائق عن أخطاء ونقائص فى أداء السياسات الخارجية العربية أوصلتنا إلى الحال الراهنة بين أحوال الأمم. قد نجد فيما سوف يكتبه المتقاعدون من الدبلوماسيين العرب والمصريين بشكل خاص تعويضا عن قصور فيما سجله الأسبقون فى مذكرات أكثرها صدرت مكتومة الصوت والرأى والمعلومة. ثم أننا ونحن نقرأ ما يكتبون سوف نتعلم، وسوف يتعلم معنا جيل الدبلوماسيين الناشئين، عن بعض أو كل ما استجد فى الشئون الدولية التى صارت مختلفة فى الجوهر وفى الأداء عن شئون دولية درسناها فى الكتب وقاعات المحاضرات أو تعاملنا معها فى مختلف الظروف والمؤتمرات والعواصم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كنوز لا نحسن استثمارها كنوز لا نحسن استثمارها



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 00:02 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
  مصر اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 11:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 20:28 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله
  مصر اليوم - قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة
  مصر اليوم - سوسن بدر تخوض تجربة فنية جديدة

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 06:00 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

العلماء الروس يطورون طائرة مسيّرة لمراقبة حرائق الغابات

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 20:12 2024 الخميس ,15 آب / أغسطس

عمر كمال يوجه رسالة مؤثرة لأحمد رفعت

GMT 10:00 2016 الأربعاء ,09 آذار/ مارس

إصبع ذكي يعيد حاسة اللمس للاصابع المبتورة

GMT 23:53 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

مصمم مغربي يطرح تشكيلة راقية من القفطان الربيعي لموسم 2016

GMT 05:09 2015 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

توثيق ازدهار ونهاية مؤسس "داعش" أبو مصعب الزرقاوي

GMT 21:24 2017 السبت ,09 أيلول / سبتمبر

5 مواقف فتحت النار على سهير رمزي بعد خلع الحجاب

GMT 05:22 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

خبيرة موضة تقدم نصائح لارتداء فساتين الصيف خلال الشتاء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon