بقلم:جميل مطر
اسمها معقد، ولعلنى منذ مدة طويلة لم أسمع اسما هكذا صعب، لواحدة من المشاهير، فى عالم صار وثيق الاتصال. أكتب عن السيدة آنجريت كرامب ــ كارينباور، وزيرة الدفاع الجديدة فى حكومة ألمانيا. لم أعرف عنها الكثير قبل توليها منصبها، وأعترف بأن اسمها كان أول ما أثار فضولى تجاهها. إذ تردد وقتها، فى أعقاب الإعلان عن نتائج آخر انتخابات تشريعية وفى خضم مناوشات حزبية، أن امرأة قد ترث منصب السيدة آنجيلا ميركل مستشارة لألمانيا. هذا المنصب لا يعلوه درجة إلا منصب فخرى لرئيس البلاد. لا أخجل من القول إننى أجلت البحث فى سيرها الذاتية ومسيرتها السياسية إلى حين تقرر السيدة ميركل أن موعد رحيلها عن المشهد البرلينى قد أزف. تخيلت أن المستشارة لن تعلن الرحيل قبل أن تكون قد اطمأنت إلى أن السيدة آنجريت أكملت تدريبها وصارت جاهزة لقيادة حزب ودولة بوزن ألمانيا فى ظرف دقيق.
***
ذات يوم قبل أسابيع قليلة فوجئ المجتمع الدبلوماسى فى العاصمة واشنطن بخبر يهمس بوصول السيدة آنجريت كرامب كارينباور. قضت فى المدينة وقتا قصيرا ولكنه كافٍ لإثارة الفضول. لم تطلب لقاء مع نواب أو شيوخ فى الكونجرس. لم تلق خطابا أو محاضرة فى مركز للبحوث الاستراتيجية أو شاركت فى عصف فكرى كعادة الزوار الرسميين من هذا المستوى. لم تعقد مؤتمرا صحفيا أو تقيم مقابلة تليفزيونية. نزلت بالعاصمة الأمريكية ورحلت فى صمت، فى وقت يغلب عليه التوتر.. فلماذا نزلت وماذا فعلت؟ استسهلنا المهمة فطرقنا الباب الأقرب، وأجبنا عن السؤال بأنفسنا. السيدة آنجريت وزيرة دفاع جديدة، وفى واشنطن وزير دفاع جديد يدعى مارك آسبر، ومن لوازم اللياقة والزمالة طلب زيارة له فى واشنطن للتعارف، وإن أمكن وسمح الوقت فليحدث أو تجرى مناقشة ما يتجاوز بالمقابلة هدف التعارف، فالقضايا عديدة.
***
القضايا بالفعل عديدة والمرحلة صعبة والجو الدولى مشحون بتوتر يشك بعض الناس أن بعضه متعمد. عدد من القضايا موجود معنا منذ زمن، قضايا روتينية الطابع وقابلة للتأجيل من مؤتمر إلى مؤتمر يليه ومن اجتماع إلى آخر. مثلا، أصبحنا ننتظر اجتماعات حلف الأطلسى واجتماعات أخرى لدول الغرب لنسمع سيل الانتقادات الذى يطلقه الرئيس دونالد ترامب فى وجه الأوروبيين عامة وبخاصة الألمان، هؤلاء الحلفاء الذين لا يدفعون النسبة المقررة عليهم سنويا لموازنة الدفاع الغربى. حدث تقدم فى الأيام الأخيرة إذ صدر عن الوزيرة الجديدة ما يوحى بأن ألمانيا سوف تصل بنصيبها إلى نسبة الواحد ونصف بالمائة وهى النسبة التى تعتقد واشنطن أنها لا تزال بعيدة جدا عن الاثنين بالمائة، وهى النسبة المقررة سلفا.
واقع الأمر فى الحلف الغربى الذى يفترض أن تكون أمريكا قائدته أن قضايا عويصة ترفض أى حل تقليدى من الحلول التى تعود عليها القائمون على إدارة الحلف. الصين مثلا واحدة من هذه القضايا. إذ إنه حتى يومنا هذا لم يحدث اتفاق أو توافق أو حتى فهم مشترك بين أعضاء الحلف على سياسة دفاعية موحدة تجاه الصين. قبل هذا، أظن، بل أعرف، أن هذه الدول الغربية لم تقرر بعد إن كانت الصين دولة عدو للغرب. الولايات المتحدة لم تنتظر قرار حلفائها حين راحت تتصرف منفردة معتبرة الصين منافسا وعدوا وقامت فعلا بشن سلسلة حروب تجارية على الصين متسببة فى مشكلات هى الآن تتراكم فى انتظار أن تصبح أزمة اقتصادية عالمية لن يفلت من آثارها حليف أو خصم.
واقع آخر فى أمر الحلف الغربى هو الموقف من روسيا. لا أتصور أن أحدا من مفكرى الغرب المتخصصين فى استراتيجيات الصراع والتوازن استطاع فيما كتب أن يرسم لى، ولغيرى من المتابعين المهتمين، لوحة واضحة تشرح لنا طبيعة العلاقة الراهنة بين حلف الأطلسى وروسيا. هناك الموقف المعقد منذ تدخلت روسيا فى النزاع داخل أوكرانيا قبل أن تنتهز الفرصة وتضم شبه جزيرة القرم، أو تعيدها، إلى الوطن الروسى. ثم هناك الأزمات الصامتة الناتجة عن تدخلات فى دول الجوار، وبخاصة الجوار القوقازى. حدث هذا وغيره قبل أن تولى موسكو جل اهتمامها إلى الشرق الأوسط نزولا من تركيا وانتهاء بدول فى منطقة الخليج. لن نغوص فى التفاصيل وهى وفيرة وعميقة ومعقدة ومتشابكة فى آن واحد. يكفى أن نتأمل إحدى آخر ثمار العلاقة الراهنة بين حلف غربى منقسم على حاله يفترض أن تكون له مصالح فى الشرق الأوسط وروسيا الزاحفة بكل ترسانة القوة الصلبة والقوة الناعمة على حد سواء. أقصد بالثمرة هذا القطاع العربى المهم استراتيجيا الذى اقتطعته تركيا من سوريا مستفيدة من انسحاب أمريكا ودعم روسيا وكلاهما، كما يتردد فى بعض عواصم الغرب والخليج وفى اسرائيل، بترتيب مسبق. الثمار الأخرى ظاهرة أيضا للعيان وحان أوان قطفها.
***
سمعنا وقرأنا أن السيدة آنجريت ربما أرادت بزيارتها شبه المتكتم عليها إلى واشنطن تهيئة وزير الدفاع الأمريكى الجديد لأجواء الإعلان فى نيويورك عن إنشاء «الحلف الاوروبى». أخيرا فيما يبدو خرج الفرنسيون والألمان إلى العلن بفكرة تحقيق الاستقلال الذاتى الاستراتيجى لأوروبا. قيل إن الوزيرة الألمانية من أشد المتحمسين للفكرة التى يروج لها بحماسة السيد هايكو ماس زميلها فى الحكومة المسئول عن السياسة الخارجية. الفكرة بطبيعة الحال لا تروق لواشنطن لأنها لو تحققت حلفا دفاعيا أوروبيا مكتمل الأركان لنسفت ما تبقى من دعائم للحلف الأطلسى. أتفهم، مثل كثيرين، دفاع المسيو لودريان وزير خارجية فرنسا عن الفكرة عندما قال إنها نشأت لمواجهة هؤلاء الذين يدمرون النظام الدولى. يقصد بطبيعة الحال إدارة الرئيس دونالد ترامب التى لم تترك بنية للتعاون الدولى أقرتها الدول العظمى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا وحاولت تدميرها.
أوروبا بفكرتها الدفاعية الجديدة تهدف، حسب رأيه ورأى السيد ماس، إلى وقف مسيرة «التوحش» التى يندفع نحوها النظام الدولى الراهن. أتفهم الرأى القائل بأن السياسة الدولية تتوحش والمستفيدة من هذا التوحش الدول العظمى، أمريكا وروسيا والصين. هذه الدول سوف تعيث قمعا وقهرا فى عالم تخلى عن قيمه الإنسانية ومبادئ الحريات الأساسية وروح التعاون، تخلى عن تراث عظيم لا تعبأ باحترامه دول تتهيأ لقيادة نظام دولى جديد.
أمام هذا الفريق الأوروبى مهمة صعبة، فالقوى الثلاث العظمى لن ترحب بمشروعه، ولن تكون وحدها، ففى العالم الثالث دول كثيرة لن ترمى بثقلها لصالح أوروبا متحملة غضب الدول الأعظم.