بقلم:جميل مطر
صعب ألا تشعر بدرجة من التوتر العنصرى أعلى من المعتاد وأنت تمشى فى شارع جانبى فى مدينة أمريكية. صعب أيضا ألا تشعر بالدرجة العالية نفسها من التوتر العنصرى وأنت تستمع إلى الخطاب الإعلامى الأمريكى فى مرحلته الراهنة. أذكر جيدا أن الأمر لم يكن على هذا النحو فى عهد الرئيس باراك أوباما. أشهد أننى من خلال متابعتى التطورات الداخلية فى المجتمع الأمريكى لم أقابل حالات اشتباك اجتماعى بمواصفات عنصرية بالكثافة ولا بالعدد الذى أقابله فى أيامنا الراهنة.
يتراوح تفسيرى لهذا الاختلاف فى مرحلتين متعاقبتين من مراحل الحكم فى الولايات المتحدة بين رأيين. رأى يرى أن وجود رئيس أسمر فى البيت الأبيض قلل من فرص الاشتباكات العنصرية. أضف إلى ذلك برود الخطاب السياسى للرئيس أوباما وتوخيه الدقة فى معظم تصريحاته وخطبه السياسية فضلا عن استعداد حكومته منذ شهورها الأولى للانسحاب من التدخلات الخارجية وإعداد البلاد لمرحلة قد تكون عصيبة تتأقلم خلالها الولايات المتحدة مع واقع جديد، إنه واقع انحدار مكانة أمريكا الدولية وانحسار إمكاناتها الكلية بالمقارنة بمجتمعات أخرى صاعدة. فى ذلك العهد، أو العهدين، حرصت القيادة السياسية على تفادى كل ما من شأنه تعطيل برامج الاندماج الاجتماعى، وبخاصة الاندماج العنصرى بين مختلف عناصر الأمة. لاحظنا وقتها كيف كان النظام السياسى أقدر على التعامل مع قضايا اندماج المهاجرين من بلاد أمريكا اللاتينية على عكس النظام السياسى الراهن.
***
الرأى الآخر يحمل الرئيس دونالد ترامب المسئولية عن توسيع رقعة الاختلاف بين الرئاستين المتعاقبتين إلى هذا الحد المثير للجدل. يجب على كل حال وقبل البدء فى عرض هذا الرأى أن اعترف للرئيس ترامب بأنه كان الرئيس الصادق بحق عندما رفع شعار إعادة أمريكا عظيمة مرة أخرى ليخفى تحته حقيقة ومدى انحدار مكانة وإمكانات أمريكا على حد سواء. كان أيضا صادقا عندما جمع كل كراهيته للأقلية «السوداء» فى شخص رجل واحد، هو الرئيس باراك أوباما. لم يخف على أحد أنه لن يهدأ له بال حتى يسقط ولايتى الرئيس أوباما من سجلات الانجازات الأمريكية، ويحمل فشلها لواقع يجب ألا يتكرر، واقع أن يقود أمريكا فى مختلف القطاعات أفراد من أقليات سمراء. كان ترامب محقا فى إعلان العولمة سببا مباشرا فى أن عددا لا بأس به من العمال فقدوا وظائفهم، من هؤلاء عمال اشتغلوا فى مناجم الفحم وصناعة الحديد والصلب والصناعات القائمة عليها كالسيارات والكابلات، وكلها مع قليل غيرها تصادف أن اختار العمل فيها عمال بيض البشرة والطابع والسلوك، هؤلاء فى أكثريتهم الساحقة فقدوا أو كادوا يفقدون وظائفهم بسبب انخراط أمريكا فى شبكات العولمة. كانت أمريكا وبحق قائدها والمستفيد الأكبر من مرحلتها الإيجابية كما انتفعت منها قوى اجتماعية معينة فى جميع أنحاء العالم وتضررت إلى حدود قصوى، لم ندرك وقتها مداها، قوى أخرى. آل ترامب على نفسه أن يجعل مشكلة هذه الأقلية من العمال البيض موضوعا لحملته الانتخابية ثم ليطلق من خلالها حملته الأعظم ضد العولمة وضد المستفيدين منها وفى مقدمهم الصين والاتحاد الأوروبى. حدث ما لم يكن متوقعا ولا متصورا. أصابت رصاصاته التى أطلقها فى قضية بطالة العمال البيض أهدافا عديدة. أصابت، بين من أصابت، الهدوء الظاهرى فى العلاقة بين غلاة التعصب فى بعض مجتمعات الجنوب الأمريكى والواقع الاجتماعى المتردى للأقلية السمراء، وأصابت مباشرة وبحدة واضحة التماسك، الظاهرى أيضا، فى المعسكر الغربى وعلاقة الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين.
***
يهمنا بدون شك ما يحدث فى أمريكا، يهمنى شخصيا فلى من صلبى ويعيش فى أمريكا أحباب وأعزاء أسعد بسعادتهم وأشقى بمتاعبهم وشكاواهم. لا أخفى عنهم قلقى على أولادهم وأحفادهم من مستقبل يفلح ترامب لو استمر لولايتين متعاقبتين فى تعميق هوة الكره العنصرى. أخشى عليهم من أن يضحى ترامب أو من يأتى بعده بالاندماج القومى فى الولايات المتحدة فى سبيل استعادة الهيمنة المطلقة للرجل الأبيض على ما سواه من ألوان الرجال. ترامب وأعماله إشارة سيئة لمستقبل مظلم. سمعته أكثر من مرة أتى فيها على ذكر بعض القادة العرب فكرهت ما أسمع. نحن فى اعتباره مصنفون أمة سمراء لا تستحق أكثر من أن تكون محلا للسخرية من تصرفاتها كما فهمنا من شرح ودروس أثمرتها صفقة القرن، مهزلة لا يقدم على صنعها إلا كاره للعرب ومتطرف عنصرى، وهو بالفعل ما اتضح لنا من خلال إنصاتنا المهذب إلى تصريحات وتوصيات مجموعة كوشنر، بمن فيهم ترامب نفسه وسفيره فى إسرائيل ووزير خارجيته. وقع هذا الاستهتار غير المسبوق فى علاقات كل عهود الرئاسة فى أمريكا بقادة مختلف عهود الحكم فى العالم العربى، وقع بسبب الحاجة الأمريكية المعلنة والصريحة والصادقة إلى الأموال العربية. بدونها سيكون صعبا على قيادة أمريكية راهنة أو قادمة وقف انحدار أمريكا، ناهيك عن استعادة عظمتها. ومع ذلك نتلقى من العهد الأمريكى القائم استهتارا بحقوق العرب واستخفافا بمكانتهم بين الأمم.
***
أخشى أن تكون العلاقات الدولية فى الطريق نحو التدهور فى الحال وفى الأساليب وأنماط التحالفات ولغة الخطاب عن كل ما عرفناه فى مراحل سابقة فى التاريخ الدبلوماسى. كانت المصالح تأتى فى مقدمة الاعتبارات وبعدها بكثير الاعتبار الأيديولوجى. من الآن، وفى حال تجددت للرئيس دونالد ترامب الولاية ولا شك أنه يسعى بكل ما أوتى من خدع الكذب وقوى التحشيد فى قطاع اليمين المسيحى الإنجيلى الصهيونى المتعصب وأموال ممولى الاستيطان الإسرائيلى، يسعى للفوز مرة أخرى، وقد يفوز بالفعل. أقول أنه فى حال تجددت لترامب الولاية واتسعت دوائر الخلافات مع الصين وتعمقت سياسات الكره تجاه الدول اللاتينية المصدرة لمهاجرين سمر البشرة واستنفذ غايته من الأموال العربية وتعددت أسباب الصدام مع دول غير عربية فى الشرق الأوسط ووسط آسيا وهو الحادث الآن وبكثرة ملفتة، فالمتوقع غالبا أن تبدأ مرحلة فى العلاقات الدولية تعتمد الكره العنصرى أساسا لها، وهو ما لم يحدث فى التاريخ إلا نادرا، كحروب الاستعمار الغربى فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وبعض معارك جيوش الغرب والمرتزقة مع الإرهاب والدول المصدرة له.
***
نعيش مرحلة الفتن الكبرى. هناك من يسعى لإشعال فتنة فى أوروبا عن طريق دعم القوى اليمية المتطرفة فى دول غرب ووسط القارة. هناك أيضا من يضرم النار فى أوضاع اجتماعية متدهورة فى أمريكا الشمالية. وهناك فى أقصى الشرق دولة عظمى صاعدة بشرتها بلون غير أبيض تتقدم بسرعة فائقة لتحتل مواقع أمامية استعدادا لصدامات تاريخية نخشى أن تنشب لأسباب عنصرية.