توقيت القاهرة المحلي 17:42:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

التفكير إمبراطوريًا

  مصر اليوم -

التفكير إمبراطوريًا

بقلم : جميل مطر

خلال الأسابيع الأخيرة لم أحضر نقاشا جادا حول مستقبل الشرق الأوسط إلا وخرجت بانطباع لم أعهد كثيرا مثله من قبل. سياسيون «عتاقى» وأساتذة وخبراء علاقات دولية من الذين اختلطوا حديثا بأقران لهم فى الشرق، فى كوريا واليابان وباكستان مثلا، وبأقران فى الغرب أيضا، صاروا يهتمون كثيرا فى مداخلاتهم فى دوائر الحوار بأدوار «دول ورثت حضارات قديمة». مقابل هذا التطور اللافت للانتباه فى محاولات لفهم «المرحلة الثورية» الراهنة فى العلاقات الدولية، صار فى حكم المستقر فى أذهاننا أن دولا فى الغرب راحت بعد الحرب العالمية الأولى تستعير من تاريخها أساليب إمبراطورية فى الحكم وفى التوسع. استقر أيضا أن هذه الدول بعد أن اشتركت فى رسم خرائط أقاليم عديدة وإقامة نظم دولية الواحد بعد الآخر تباطأت خطواتها وتعثرت مسيراتها. قليلون بيننا هم الذين يتوقعون من فرنسا وبريطانيا مثلا تأثيرا حاسما فى المرحلة القادمة من التطور السياسى فى أقاليم كالشرق الأوسط وجنوب شرقى آسيا.

قمت بإجراء مقارنة ذهنية بين ما تنفذه فرنسا وما تنفذه الصين من خطط عبر سياستيهما الخارجية بهدف توسيع دائرة نفوذهما إقليميا ودوليا. سمعت الرئيس ماكرون يحلم برقعة واسعة من العالم فرانكفونية الثقافة يتجاوز عدد سكانها الناطقين بالفرنسية عدد الناطقين بأى لغة أخرى. يتخيل الرئيس الفرنسى أن الحلم سوف يتحقق فى أحسن الظروف بعد نحو ثلاثين عاما. عدت أقرأ خطة الرئيس شى تحت عنوان مبادرة الحزام والحرير لتزداد ثقتى فى أنها تعكس فكرا مختلفا وتعبر عن ذهنية أكثر طموحا وتعقيدا وتدفعها طاقة متجددة من بشر وإمكانات ونوايا إمبراطورية تتجاوز نوايا السيد ماكرون. تعود بك الخطة الصينية إلى القرن الثالث عشر، القرن الذى شهد تنفيذ ماركو بولو مشروع طريق الحرير. بدأه من إيطاليا وسار به مخترقا وسط آسيا متوجها إلى غرب الصين. لم يفته أن تكون العودة عن طريق بحر الصين الجنوبى فالمحيط الهندى. يؤكد المشروع الصينى فى طبعته المنقحة والموسعة الثقة التى يوليها المجددون فى دول آسيا لإنجازات المراحل الإمبراطورية فى تاريخ أممهم وضرورة الاستفادة منها. كلهم واعون لدرس اليابان. اليابان بانتصارها على روسيا فى مطلع القرن العشرين وبشنها الهجوم الشهير على القاعدة الأمريكية فى بيرل هاربور قرب منتصف القرن أساءت اختيار لحظة إعلان نوايا شرق يستيقظ بينما الغرب يبدل قيادته ويجدد لياقته.

احتاجت البشرية إلى قرون عديدة لتتشرب حضارة الغرب وثقافة الرجل الأبيض. شعوب عديدة انتهت عند نسخ مشوهة، مزيج من الغرب والشرق لا هو الغرب خالصا ولا هو الشرق صافيا. دول كثيرة معاصرة عانت مرارة الانتقال إلى الغرب لتكتشف أنها بعد مئات السنين وعديد التجارب لم تزل مشدودة إلى ماض يرفض أن ينصرف أو يتطور. بعضها كان فيه ما يكفيه من صراع الهويات التقليدية ليزيد عليه الانتقال أثقال هويات وافدة من صنع شعوب وحضارات أخرى. المواطنة لم تكن من صنع شعوب الشرق وحضاراته ولا كانت القومية. قيم جاءت مع الانتقال لم يكن لها شبيه أو قرين أو جذور فى ثقافات شعوب كثيرة. بينها قيم جاءت تهز قواعد استقرت منذ قرون. جاءت بين ما جاءت قيمة الإنسان وقيمة الحرية وقيمة الزمن. حدث هذا عندما وصلت طلائع شركة الهند الشرقية إلى شبه القارة الهندية ومنها انتقلت ومعها شحنات الشاى والأفيون إلى الصين. حدث عندما وصلت بوارج نابليون إلى الإسكندرية ونزل جنوده وعلماؤه إلى البر. حدث فى الأمريكتين يوم اكتشفهما كولومبوس ولحقت به أساطيل إسبانيا ومراكب الفارين من عنف الصراع الدينى. وقتها حمل المبشرون والجنود والحجاج رسالة من الرجل الأبيض رسالة يشهد التاريخ أنها لخصت بكل الأمانة الواجبة كذب الغرب فى تلك المرحلة الاستعمارية ونفاقه ونواياه تجاه الشعوب غير البيضاء. من هذه الشعوب ما أبيد ومنها ما استرق ومنها ما عذب وشرد ومنها ما استخدمته آلة الاستعمار ليزيد عائدها ويخدم أهدافها ويؤمن مصالحها. 

الغرب المقيم فينا هو الآن مهدد. ومع ذلك ما زلنا نقيس بمعاييره مدى ما حققته شعوبنا العربية من «تقدم». فقر أقل وأوبئة عابرة. حققنا بالتأكيد ومعنا كثير من شعوب إفريقيا سلما نسبيا أوفر منذ أن حرم الاستعمار الغربى على القبائل الاقتتال العرفى وصراعات التوريث والقرصنة وحرم على فلول الإمبراطوريات التقليدية المهزومة أو المنكسرة تبادل شن الغارات مع كيانات فى الجوار أو منشقين محليين. بل إنه مهد لنهاية عهود كعهد المماليك فى مصر، وإن كان لصالح إمبراطورية أخرى وصالحه، ومهد لنهاية العهد الإمبراطورى فى الصين وفى الهند وفى شمال أمريكا الجنوبية، وأوقف استعدادات شعوب فى إفريقيا لإقامة أو توسيع إمبراطوريات أفريقية فى غرب القارة. استغرقت هذه الإنجازات تحضيرا وتنفيذا وقتا طويلا لافتقارها إلى تكنولوجيا متطورة فى الاتصال والنقل والمواصلات والحرب كتلك التى تتوفر حاليا للقوى الأسيوية الصاعدة. 

أنظر حولى، أنظر هذا الصباح من موقعى العربى فى الشرق الأوسط فأرى جديدا. أرى نفوذ الغرب كقوى استعمارية ينحسر. أرى مناطق نفوذه تنكمش. أرى جماهير جامحة من أفريقيا وآسيا تجاسرت فاقتحمت حدوده وفرضت نفسها رعايا على أرضه أو معتدين على مقدساته وأرواحه. أرى حكومات من بنى جلدتنا تكاد تستجدى الغرب استعادة قوته وتجديد آلياته الاستعمارية وملئ فراغات الهيمنة فى منطقتنا. أراها حكومات على عجزها أكرم وأسخى عطاء وأراه غربا وللغرابة مترددا فى قبول العطايا. أرى الرأى العام فى الغرب لا ينظر بعين الرضا إلى جل تاريخه الاستعمارى وغير مرحب بدول تستدرجه طرفا فى صراعاتها، صراعات لا تفيد الغرب كما كانت تفيده فى الماضى عندما كان يستعمر هذه المناطق. أرى فى قلب الإقليم رؤى متناثرة وأحيانا متضاربة وكثيرا ما أراها رؤى غائمة لا توجد إلا فى مجتمعات شاخت طبقتها السياسية فكرا وبصيرة أو نضبت عقيدة وأحلاما. فى الغالب لم يعد للتاريخ عندها مكانة أو منفعة، تجاهلته جهلا أو تكبرت عليه بالنية المبيتة. 

أرى شيئا آخر. أرى زحفا نحو هذا القلب العربى، الشرق الأوسط كبيرا كان أو صغيرا، زحف من أجل النفوذ أساسا ولكن أيضا من أجل أهداف أخرى. الزحف قادم من بعيد جدا ومن قريب جدا وفى الحالتين تدفعه وتحركه وتغذيه أفكار من تراث إمبراطورى. الزحف القادم من بعيد هو من الصين وبعده بسنوات قليلة تصل أمواج أخرى أيضا من بعيد وأقصد الهند ومعه أو فى ركابه اليابان الجديدة، ولكن أيضا مدفوعة بفكر امبراطورى. الشرق البعيد تحرك بالفعل محملا بمصالح، وليس برسائل، وإن وجدت الرسائل فلن تأتى قبل أن يستقر المقام بالمصالح المادية. لا أرى الصين أو الهند مستعدة لتبديد امكانات إمبراطورية غالية على صراع أيديولوجى أو إنسانى أو ثقافى مع الموروث فى الشرق الأوسط من حضارة الغرب وثقافة الفتاوى الدينية وصراعات القوة الهزيلة. كلاهما، الزحف القادم من بعيد والزحف القادم من قريب أى من نواحى الجوار المشبع بفكر امبراطورى، يدرك أن قلب الشرق الأوسط، القلب العربى، بوضعه الحالى لن يشكل عقبة على طريق التوسع فى النفوذ الإمبراطورى الصينى أو الهندى. واضح وضوح الشمس أن قيادات القلب العربى ترفض الاستعانة بأى فكر بناء أو إيجابى خلفته امبراطوريات «عربية المنشأ» أو إمبراطوريات كان للعرب فى توسعها ونهضتها وصنع تراثها الفضل الأكبر. نقرأ الخطاب السياسى العربى الراهن فلا نجد فيه دليلا على صلة أو تمسك أو علاقة إعزاز بفكر وطموح مرحلة إمبراطورية عربية بعينها. 
العكس تماما نقرأه فى الخطاب السياسى لكل الدول الزاحفة نحونا البعيد منها والقريب. نقرأ فيه استلهاما من عقيدة إمبراطورية واسترشادا بطرق سلكها السابقون وأساليب استخدموها. نقرأ ونقارن وندعو للانتباه.

نقلًا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التفكير إمبراطوريًا التفكير إمبراطوريًا



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon