توقيت القاهرة المحلي 15:24:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ليالى البريستول

  مصر اليوم -

ليالى البريستول

بقلم:جميل مطر

لم أتصور فى شبابى أننى سوف أعيش إلى يوم أعترف فيه لفندق بعينه، وليس لمدرسة أو جامعة، بالفضل على ما تعلمت خلال إقاماتى المتناثرة فيه، كما أننى لا أذكر أن الفندقة كانت بين المهن التى سعيت إليها رغم وجاهة ما تؤديه وحجم ما تكتمه من قصص وروايات أقرب إلى الخيال وهى فى الأصل حقائق كل يوم. وعلى كل حال لم أشك للحظة واحدة قبل سنوات كثيرة ولليوم أيضا أننى لو كنت اخترت الفندقة حياة ومهنة ومصدر رزق لعشت لا أشكو من ملل أو وحدة إلى آخر يوم فى حياتى.
***
الفنادق ليالى. جرت عادة أصحابها ونزلائها أن يحسبوا الإقامة فيها بعدد الليالى. كنزيل شديد الولاء أعترف بأننى كثيرا ما فضلت قضاء الليل بالفندق مع من أختارهم من محبى السهر عن أن أسلم نفسى لهم أو لبيوت ليل أو لساكنى قصور لا أعرف عنهم وعنها إلا القليل. عشت أقيس كفاءة الفندق، أى فندق، ليس فقط بما يؤديه من واجبات فى خدمة مؤتمر بالنهار وانضباط موظفيه وعماله أثناء تقديم وجبة غداء راقية وفى أجواء صديقة وغير رتيبة، ولكن أقيسها أيضا بالأمن والهدوء الذين يوفرهما وتتميز بهما لياليه. زبائن النهار، مثل كل المشاركين فى مؤتمرات الكلام ومناقشات الفن السينمائى وأنشطة المجتمع المدنى وعروض الأزياء و«بروفات» مسابقات ملكات الجمال، هؤلاء تنتهى علاقتهم بالفندق بنهاية نهارهم. أما نزلاء الليل فعلاقتهم بالفندق متطورة طول الليل ويفيض منها ما يفيض فى نهار اليوم التالى.
***
ذات يوم جرى بينى وبين أحد الفندقيين الأجانب حديث مطول وممتع. أذكر أننى قطعت الحديث لأقترح عليه أن يعود لغرفته فأهل بلده شهرتهم النوم المبكر. أجاب أنه لا يأوى لفراشه إلا إذا نام كل النزلاء، أو إذا اطمأن إلى أنهم فى أمان. سألته وكيف يعرف أنهم سيكونون فى أمان، أجاب بكل الثقة الممكنة، «سيدى، أنا أعرف من اختاروا للسهر معهم. وإذا تعذر أن أعرف بالدقة اللازمة قضيت أنا الليل ساهرا».
***
غبت عن فندقى عامين أو أكثر قليلا. كنت أسمع من بعيد أن الفندق قرر تغيير الديكور. يا إلهى، كم أتوجس شرا كلما همس أحد أو همست إحداهن فى أذنى عن نيته أو نيتها تغيير الديكور. وصلت كعادتى فى الثانية ظهرا وصدمت ولكن لم أغضب. منذ متى كان يحق لنزيل أن يشتاط غضبا لأن صاحب الفندق قرر تغيير الديكور. لذلك احتطت للأمر وتصرفت بنعومة حرصا على استمرار علاقة بين نزيل عاشق للفندق ومالك حر فيما يملك. ومع ذلك لم تفلح الحيطة طويلا وتغلب الغضب المكتوم. أنا النزيل الذى لم يشك يوما خلال أربعين عاما، ما إن دخل غرفته إلا وأبلغ عن شكوى. الوسادة ليست مريحة!. ما هى إلا دقائق وكانت مندوبة الإدارة تساعدنى فى نقل أمتعتى إلى جناح فى طابق لم تمسه يد التحديث ويلتحق فيه بغرفة النوم صالون مؤثث تأثيثا فاخرا. دقائق أخرى ودق الباب وظهرت الوسادة المريحة وأشياء أخرى من العهد القديم زينت الجناح وأضافت ثراء إلى ما فيه من ثراء.
***
ما لم يتغير كان كثيرا أيضا. الموظفون لم يتغيروا. المطبخ احترم سمعته فلم يتغير. أذكر أننى تناولت الإفطار ذات صباح مبكر ودار بينى وبين سيدة متقدمة فى العمر كانت تشغل المائدة المجاورة ولها فيما بدا لى علاقة وثيقة بأصحاب الفندق أو بإدارته. تحدثنا عن مفهوم الفندقة فى ثقافة وأدب الرحلات فى التاريخ العربى. عقبت الصديقة على كلامى فقالت «يبدو أنك بين القلائل من النزلاء الذين فهموا أن لكل فندق رسالة. رسالتنا، أو فلنقل عقيدتنا، فنحن فى لبنان هوايتنا جمع العقائد وإن خلت الساحة ولم تجدد فى مخزون عقائدها، صنعنا عقيدة بين ليلة وضحاها. رسالتنا فى هذا الفندق، يا مسيو...، نشر ثقافة الحب. وهو ما كنا نفعله قبل وأثناء الحرب الأهلية وما زلنا نقوم به بكل الاقتناع والإيمان. غيرنا الديكور، ونعتذر لك، ولكن لم نغير رسالتنا إيمانا منا بأن الحب، حتى لو كان وحده كل ما تبقى لنا، أبقى وأحسن».
***
يوزعون كل ليلة رسائل حب فى طباعة أنيقة وبتوقيع قلم رشيق. كل ليلة أعود إلى غرفتى مدفوعا برغبة رائعة فى قراءة آخر رسالة حب. أذكر من هذه الرسائل رسالة مقتبسة من نيتشة نصها «هناك دائما بعض الجنون فى الحب. لكن أيضا هناك دائما بعض العقل فى الجنون». أذكر أيضا رسالة نقلت عن باولو كولهو قوله «عندما نحب نحاول دائما أن نكون أحسن مما نحن عليه. وعندما نحاول أن نكون أحسن يصبح كل شىء حولنا أحسن أيضا». ولم أنس رسالة منقولة عن فيلسوف إغريقى أوجز فأحسن قال «أعظم متعة فى الحياة هى الحب»، ورسالة مقتبسة من كتابات اللورد تينسون تقول «أحسن لنا أن نحب ونفشل عن أن لا نحب أبدا».
***
لم يدخل ضيف غرفتى فى هذا الفندق الذى عشقت إلا وقرأ رسالة الحب التى لم ينسَ من رتب الغرفة للسهر أن يتركها فوق الوسادة المريحة مع علبة الشوكولا الشهيرة وزهرة حمراء. سمعت أصدقاء يشيدون بأجواء الحب التى كانت تجمعهم كلما أقاموا فى الفندق أو سهروا الليالى ضيوفا على نزلاء فيه يناقشون دور الحب فى إنقاذ لبنان من مصير بات يبدو للكثيرين أمرا واقعا. أحسنت أو أحسن صنعا من جعل الحب حديث وسلوك النزلاء وضيوفهم على امتداد عمر هذا الفندق العتيد. عشت فيه ألف ليلة ورحل مدينا لى بالليلة بعد الألف.
***
لا أعرف تماما إن كان إغلاق فندق البريستول مؤشرا لما هو قادم فى لبنان أم أن انحدار لبنان صار حقيقة واقعة وما كان البريستول ليسقط لو لم يتأكد لأصحابه والعشاق من نزلائه أن لبنان يقترب حثيثا من هاوية. البريستول ظاهرة حب ووفاء ومستقبل ولا يمكن تصوره قائما وفاعلا ومبشرا بالحب فى دولة كادت بالكره والعصبية تتلاشى. حاول البريستول أن يتغير ولكنه كمعظم مؤسسات وطموحات لبنان لم يعرف فى أى اتجاه يتغير. تخبط حتى اكتشف أنه إن استمر فسوف يعيش مقعدا فى دولة متقاعدة. هكذا رأيته وأحسست بأزمته فى آخر مرة نزلت فيه بعد ما أجراه من تغييرات «بلا طعمه». تغير ولكن قبل أن يعرف لمن يتغير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليالى البريستول ليالى البريستول



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 13:16 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon