بقلم:جميل مطر
فى أيام ليست بعيدة لم نكن نسمع من أبناء وبنات الطبقة الراقية فى أمريكا شكاوى إلا نادرا وأغلبها يصدر عن أفراد مرفهين للغاية أو نشأوا فى بيئة أو عائلة شديدة التعصب، النسبة الغالبة من الشاكين حسب ما أذكر كنا نجدها فى صفوف أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أما الطبقة الدنيا وغالبيتها من الملونين والمهاجرين الجدد ومن الساقطين فى مسيرة الطبقة الوسطى فهذه غلبت على تصرفاتها سلوكيات التمرد ليس فقط تعبيرا عن الشكوى ولكن أيضا تجسيدا لها فعلا بعد قول.
***
تغيرت أمريكا، هذا ما يقول محبوها من الذين رافقوا مسيرتنا، نرد بالقول، نعم تغيرت، ولكن التغيير الكبير قادم على الطريق، عندما أعقد مقارنة بين «مجتمع صغير»، كنت عضوا فيه، ومجتمع معاصر بنفس الحجم، وللأسف لست عضوا فيه، وأقصد صف السنة الأولى فى برنامج الدراسات العليا فى إحدى جامعات القارة الأمريكية، أخرج بقناعة خلاصتها كما صغتها فى جملة قصيرة، «حدثت بالفعل تغيرات بدليل أن القضايا التى يهتم بها تلاميذ العلوم السياسية فى السنة الأولى الحالية من برنامج الدراسات العليا فى جامعة وقورة، تختلف عن القضايا التى كانت تشغلنا ونحن شباب من مختلف قطاعات وطبقات وضيوف المجتمع الأمريكى.. تغيرت أمريكا ونحن أيضا تغيرنا.
***
كنا ندرس مثلا، وبحماسة فائقة، قضية ما عرف وقتها بالمجمع الصناعى العسكرى، هذا المفهوم الذى صاغه الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور ليحذر الشعب الأمريكى من مستقبل يزداد نفوذا فيه هذا المجمع فيطغى على ما عداه، وبخاصة المؤسسات الدستورية، كانت مفاجأة لنا ونحن طلاب أن يصدر هذا التحذير عن قائد أعلى للقوات المسلحة بصفته رئيس الدولة وعن جنرال قاد الحلفاء نحو النصر فى حرب استخدموا فيها منتجات الصناعة الأمريكية وبخاصة الصناعة العسكرية، هذا المفهوم الذى صكه الرئيس ايزنهاور صار حجر الزاوية فى كل الدراسات التى ظهرت منذ ذلك الوقت تدرس وتحلل التوزيع الطبقى فى الولايات المتحدة وتشكيل الطبقة السياسية الأمريكية ودور البيروقراطية المدنية والعسكرية على حد سواء فى صنع القرار الاستراتيجى الأمريكى.
قرأت أخيرا تقارير تناقش الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، بين هذه الأسس التقيت مفهوم المجمع العسكرى الصناعى يعود مهيمنا وقد تغيرت صياغته، سمعتهم يطلقون عليه «المجمع الرقابى الصناعى العسكرى»، أضيف إليه المكون الرقابى وفى نظرهم أنه لا يقل أهمية ولا تأثيرا عن المكونين التقليديين، الصناعى والعسكرى، هكذا نستطيع القول وبكل الاطمئنان الواجب عند تقويم ما هو آت فى المستقبل، أن لا أمن ولا دفاع ولا استراتيجية متينة ممكنة بدون إدماج عنصر الأمن الداخلى ضمن تفاصيل صنع قرار السياسة الخارجية وإدراج المواطن الفرد طرفا أساسيا ضمن أطراف السياسة الخارجية، يبدو على كل حال أن الفضل يعود إلى كل من إسرائيل والصين، وربما سويسرا، بصفتها من أوائل من قدموا إبداعات على صعيد تكنولوجيا الرقابة على المواطنين كافة، وتكرموا ببيعها فى عديد من الأسواق وفى مقدمتهم السوقان الأمريكية والبريطانية وأسواق عربية.
يلفت النظر إلى أن الدول التى فضلت نهج الغموض فى التعامل مع الأغراب كانت فى مقدمة الدول التى أبدعت فى تطوير فنون وتكنولوجيات العدوان على خصوصيات الأفراد، زد على إمكانات هذه القوة، ما بين الصلبة والرخوة، زد عليها تكنولوجيا وأجهزة وذكاء «عمليات اقتفاء الأثر» تصبح الدولة المالكة لها أقوى فى مواجهة خصومها، أو أداة طيعة فى خدمة هذا المجمع الرهيب.
يحاولون طمأنة الناس، يقولون إن المعلومات الخاصة جدا التى سوف تتاح نتيجة استخدام عمليات اقتفاء الأثر لن تذهب إلى مواقع مركزية تحللها أو تستفيد منها بالبيع أو التشغيل، يأتى الرد من السرعة التى استخدمت بها الصين هذا الإبداع، رأينا كيف سلطت الكاميرات على الجماهير المتدفقة فحصلت على المعلومات التى توختها، من هو هذا المواطن أو هى، من أين وفى الطريق إلى أين، وهل يحمل معه أو تحمل معها فيروس الكورونا، حرارة الأجسام تشى بمرض، بريئة السلطة حتى الآن رغم أن الدولة لم تستأذن والقانون لم يستشر أو على الأقل يراعى، بمعنى آخر، ستكون أمريكا فى الشهور والسنوات القادمة فى انتظار خرق جديد لنظام وفلسفة الحكم بالقانون، بمعنى ثالث ينضم إلى تراث دونالد ترامب فى إهماله القانون واعتداءاته المتكررة عليه بنود جديدة، بمعنى رابع، سوف تزداد عمقا الدولة العميقة التى يخشاها بل ويكرهها ترامب، وهى أيضا لا تحبه، هذه الدولة العميقة حاربته. كادت تفتك بمستقبله فى الحكم وفى السياسة برمتها، أجهض سعيها فوضى الحزب الديمقراطى واستماتة الجمهوريين تمسكا بالحكم، لم تفلح جهود عزل الرئيس، أفلت ترامب ولكن بتكلفة كبيرة، أهين الدستور الأمريكى وتلاعبوا بالقوانين، اهتزت إلى الأعماق مكانة الدولة وازدادت قوة وإصرارا تيارات التفكيك والقوى المتطرفة فى قوميتها ويمينيتها، عاد يطفو على سطح السياسة فى أمريكا صوت الكونفدرالية وصراخ «الزنج» وخطابات الحرب الأهلية، وهذه الأخيرة تعتمد على أقوال متهورة يدلى بها رئيس البلاد بين الحين والحين، شاهدنا مظاهرات قبل أيام قليلة تتجمع فى حراسة رجال مسلحين بالرشاشات الثقيلة، وصفهم ترامب بالطيبة، بل ودعاهم بأسلحتهم لتحرير عواصم ولاياتهم من حكم الديمقراطيين، خطير أمر أمريكا فى المستقبل إن هى استعادت رخاء أقلية فيها وفقر أقلية أخرى وتدهور حال أغلبية فى الطبقة الوسطى، فى الوقت نفسه يبقى مهيمنا على الطبقة السياسية المجمع الرقابى الصناعى العسكرى ويبقى ضاغطا بقوة متزايدة التيار الشعبوى المتطرف فى قوميته وعنصريته.
***
أسأل النفس أحيانا إن كان شعار «أمريكا أولا» أو لبنان أولا أو رنجلترا أولا حقق فائدة تذكر لكل من أمريكا ولبنان وإنجلترا على التوالى ولكل دولة رفعوا لها شعارا مماثلا، أعتقد أن التجربة الأمريكية أثبتت فشل هذا الشعار فى تحقيق مصلحة حقيقية وطويلة الأمد للولايات المتحدة، إذ اتضح أن شعارا آخر كان يختبئ وراء شعار أمريكا أولا وهو شعار «أنا أولا»، هذا الشعار متهم الآن بأنه جسد قيم تعالى الجنس الأبيض عما عداه وكشف عن حالة تطرف شديد لدى الرئيس ترامب فى حب ذاته وليس حب الوطن، ألم يتجاهل الرئيس المعلومات الاستخباراتية والإعلامية ومن مصادر فى الدولة العميقة تؤكد جميعها المعلومات عن انتشار متصاعد لفيروس الكورونا، تجاهل الرئيس مصلحة أمريكا حرصا على عدم الإضرار بمصلحته الشخصية، أنا أولا، ثم شن بنفسه حرب كراهية وكذب ومعلومات زائفة، أو على الأقل غير ناضجة، عن تقصير أو مؤامرة دبرتها الحكومة الشيوعية فى بكين، لصنع فيروس أو ترويجه أو كلاهما معا.
***
تنتظر أمريكا أياما صعبة وتعقيدات جمة، وبالتالى تنتظرنا بالمثل وإن بدرجات متفاوتة تداعيات بعض أزماتها القادمة وبشكل خاص الأزمات الناتجة عن التهورات المتوقعة عند احتدام المنافسة مع الصين.