بقلم:جميل مطر
هى... أقرأ أكثر ما تكتب وأهتم اهتماما خاصا بما تنقله عن هموم الناس. كتبت كثيرا عن المرأة. أشاركك الاعتقاد أن الأساس لفهم المجتمعات هو فهم أسباب معاناة المرأة وهذا ما تلمح به أحيانا. أنت متهم بأنك تبالغ فى تضخيم دور المرأة فى صعود المجتمعات وانحدارها.
***
هى... كان أسفى شديدا لعدم حضورك حفل تسلمى جائزة التفوق. أذكر أن أستاذى كان حريصا على أن يعتذر عن غيابك لسفر مفاجئ. انشغلنا بعد الحفل. انشغل كلانا. انشغلت أنا بتنفيذ عهود كانت بين عهود قطعتها على نفسى فى الصغر. هل تصدق أن لا أحد فى حياتى يعرف الكثير أو حتى القليل عن هذه العهود. هل تصدق أنى وإلى وقت قريب كنت أعتقد أن ما مررت به فى مرحلة من حياتى لا يمكن أن يكون قد مرت بمثله فتاة غيرى. هل تصدق، وأعدك بأن يكون آخر أسئلتى لك، أننى ما كنت استأذنت فى هذه الزيارة لو لم أكن قطعت عهدا على نفسى قبل عشرين عاما أن أطلب زيارتك لأحكى لك وحدك ما لم أحك عنه لأحد من قبل وما لن يعرفه أحد بعدك. رجائى الوحيد أن تسمعنى إلى النهاية، وأعرفك بارعا فى الاستماع وشديد الإخلاص فى الكتمان.
***
هى... كانت أول من صعدوا إلى السيارة ويدها فى يدى تجرنى خلفها. أفسحت لى مكانا فى المقعد العريض فأفسحت لبعض أحمالها مكانا فى حجرى. شعرت بها تصوب بركن العين ناحيتى نظرات فاحصة ولكن حنونة. صرت أعرف أنواع النظرات. أعرف نظرات الفضول من نساء يعرينك لفضح ما تحاولين ستره. وأعرف نظرات الشره من رجال يعرينك تمهيدا لتنفيذ خطة انقضاض، هى الخطة التى استعملها الرجل البدائى فى مرحلة توحش. غريب أمر هذه المرأة التى أجلستنى بجانبها. خرجت النظرة الثانية كما توقعت من ركن العين ذاته ولم تستغرق لحظة، كانت كافية لتغطينى من قمة رأسى حتى أصابع القدمين. صدقنى، ما زلت أذكر تلك اللحظة فترتعش أطرافى وتتعالى أنفاسى فى صدرى تماما كما يحدث لى الآن وأنا أحكى لك. لا أستطيع أن أصف لك بالوضوح الكافى ما فعلته بى نظرتها. تخيل شعورك خلال لحظات سكون طويلة، سكون من حولك وفى داخلك، سكون ليس كالسكون، سكون لذيذ، سكون حنون. تسألنى عن شعورى وأنا بجانبها أنعم بأنفاس عطرة ونظرات متفهمة تكاد تمسك بأهداب عونى. أنا لست فى سيارة تنهب الأسفلت الساخن ويختنق ركابها بدخانها ودخانهم، أنا استلقى فى صحبة ملاك فوق سجادة تتهادى فوق حقل زهور ممتد حتى الأفق.
***
ساد صمت فى غرفة مكتبه قطعته محدثته لتطلب بعض القهوة الساخنة. عرض عليها إن شاءت صنع قهوتها بنفسها. وافقت وصنعا القهوة وعادا بها. احترم وعده فلم يعلق على حديثها بكلمة إنما جلس مطرق الرأس مستمتعا بأجواء سكون عمت المكان وفى انتظار أن تستأنف حكايتها. قطعت السكون مرة أخرى لتقول «تعرف أننى اقترب من الستين من عمرى، كتبت فى القانون كتبا ثلاثة، ألقى محاضراتى فى جامعتين، عضو فى جمعيات علمية وأكاديمية عديدة، واحدة منها تهدف إلى نشر الوعى بالعلم وآفاقه اللامحدودة». تدخل معلقا، «كل هذا أعرفه وأقدره، أعرف أيضا أنك بعيدة عن عالم الخرافة والوهم. ولكنى الآن حائر وأحاول أن أفهم».
***
هى... انتهت رحلة السيارة فى دقائق، أو هكذا حسبت. لم تدع رفيقة السفر راكبا يشدنى إلى حديث، حتى السائق دفعت له عنى الأجرة هامسة فى أذنى أننا سوف نتحاسب عند الوصول. أدركت بعد وقت طويل أنها خلال الرحلة لم تدع صوتى يعلو فيسمعه راكب ولم تسمح لأحد بتبادل عبارات التعارف معى. كانت تتدخل بسرعة لا تصدق لمنعى من الإجابة على سؤال للسائق أو أحد الركاب. نزلنا من السيارة لنجد فى استقبالنا «السايس سامح». وجه لها تحية وقورة ولم يبد اهتماما بوجودى معها وكأن وجودى أمر واقع أو متوقع. حمل عنها ما تحمل. لم يمس ما أحمل إلا بعد أن أومأت لكلينا برأسها. مشى أمامنا بما حمل حتى وصلنا إلى سيارة سوداء خرج منها سائق فتح لها بابا ولى الباب الآخر. اختفى السايس سامح كما ظهر.
***
هى... أحكى تفاصيل. أحكيها لأننى لا أريد أن أنساها بعد أن شكلت هذه التفاصيل طبيعة ومنطق مرحلة بين حياتين لشخص واحد، هذا الشخص هو أنا. أنت تعرف جانبا وربما جزءا منه. ولكنك بالتأكيد لا تعرف الجانب الأهم، جانب النشأة. أذكر مثلا من التفاصيل رائحة السيارة. صدمتنى الرائحة، سمعت أن المدينة صادمة، ولكن لم أعرف أن رائحتها هكذا صادمة، مختلفة وناعمة وطاغية كالسحر. لا بد أنها لبشر غيرنا لهم رئات مختلفة ومنظومات لحاسة الشم غير تلك التى نشم بها ونحن فى الحقول فى مواسم السماد وعلى ضفاف قنوات الرى والصرف وفى بيوتنا المتاخمة لزرايب البقر وعشش الدجاج.
***
هو... أستزيد ولا أقاطع. هل سنعرف من هى؟ هل قدمت نفسها لك فتطمئن نفسك ويرتاح بالك؟ استسلمت ولم تقاومى، كيف حدث هذا؟ تتحدثين عن رائحة المدينة كما بدت لك فى السيارة ولا تتحدثين عن سيدة اختطفتك من موقف سيارات أجرة فى أقصى الريف؟
***
هى... توقعت منك هذه المقاطعة منذ أن رأيت القلق يتسرب إلى عينيك وتقاطيع وجهك رغم كل محاولات إخفائه. لا تنسى أنه مر على ما بدأت أحكيه أكثر من أربعين سنة. لم يكن حلما. السيدة كانت حقيقة واقعة. لم تخطفنى. قالت ونحن نقترب من السيارة السوداء أنها سوف تصطحبنى إلى بيت عائلة لأقوم بأعمال منزلية مقابل الإقامة والملبس ومصروف جيب. ازداد يقينى لحظتها أنها تعرف اسمى وسبب هربى من البيت. ارتعشت يدى وهى تسلمنى عند الوصول بطاقة هوية وبتاريخ ميلاد يضعنى فى موعد بين تاريخى ميلاد ابنتى سيدة الدار الذى نزلنا به وقبلت العمل فيه. شربت القهوة. كنا خمس. الأم سيدة الدار وابنتاها وأنا و«خاطفتى». لا تسألنى كيف بدت لى فأنا حتى اللحظة لم استقر على شكل لها أو صوت. أراها حينا ابتسامة لا تفارق وجه ولا تغيب إلا بعد أن تذيب خشية أو شكوكا أو قلقا. أراها حينا آخر حضنا يوفر شعورا بالأمن لا يغادر إلا وقد نامت جفونى على عيونى.
***
هى... أراك مندهشا وربما غير مصدق. هكذا أطمئن إلى أنك لن تعيد سرد حكايتى لمجموعة أو أخرى من النساء الصاعدات. أنا صعدت لأن الدار التى خدمت فيها ساعدتنى. سيدة الدار وفرت الأمان والاطمئنان ودعمت خطة العودة للدراسة. البنتان وفرتا مساحة تسمح بأن تملأها شقيقة ثالثة وإن كانت افتراضية. قدمتا ما استطاعتا من مواد وخبرة تعليمية تفتح أبواب فلاح ثم تفوق. بالفعل أفلحت. وبالفعل تفوقت وها أنت بجائزتك شاهد. إن نسيت فلن أنس الشقيقة الأكبر وقد وقفت فى حفل تكريمى الذى اعتذرت أنت عنه لتقول لى أمام الحضور والدموع تفر من عينيها، كرمتك قبل عشرين عاما لقبولك الانضمام شريكة مساهمة فى شركتنا للمحاماة، وأعود فأكرمك اليوم وأنت تقبلين هذه الجائزة التى تجعل شركتنا وأنت على رأسها أقوى شركة محاماة فى مجالنا ومنطقتنا. ها نحن نعرض عليك رئاسة الشركة، فأقبلى من فضلك.
***
هى... اسمعنى جيدا.. ما سوف أقول لن يسمعه غيرك. أنا لم أختطف. تسللت والناس نيام إلى سطح البيت. دموعى تغطى وجهى فتختلط بقذارة تخلفت من أيادى قذرة لا تقدر الجمال ولا تعرف الرحمة. أصعد الدرج زاحفة والدماء تسيل فى أماكن ضعيفة من جسدى النحيل. كرهت هذا الجسد، كرهت هذه العائلة التى ولدت فيها ونشأت، كرهت الكذب الذى رضعت وأنا على صدر أمى. خرجت من بيت أبى أكره الملائكة التى لم تنزل لتحمينى وأكره الشياطين التى تشق الأرض كل ليلة وتخرج لتتراقص أمامى فرحا وشماتة بمأساتى. إلى الجحيم كلكم.
هى... عند انبلاج الفجر شعرت بيد تمسح شعرى. فى ظلام الفجر الحالك لم أر أحدا ولكنى سمعت من يؤدى فى أذنى لحنا أحبه همس بعده أن انهضى وألحقى بى. نهضت والتحقت بصاحبة الصوت على ظهر ما بدا لى بساطا يركب الريح نقلنا من مكان وزمان إلى مكان آخر وزمان آخر، وها أنا فى مكتبك. جئت أشكرك على الجائزة وامنحك حق أن تكون الوحيد الذى يعرف من أين جئت وكيف وصلت.