بقلم:جميل مطر
«أفتح خزانة ثيابى وأقف أمامها لحظة. أمد يدى لأسحب ما أنوى ارتداءه هذا اليوم. صدقنى حين أقول لك أننى خلال اللحظة التى وقفت فيها أمام خزانتى مترددة بين أن أسحب هذا الفستان أم ذلك القميص لم يخطر على بالى شخص بعينه أو رئيس وزميلات وزملاء فى المكتب أو سائق تاكسى وركاب فى الأوتوبيس أو جارنا «عم الشيخ» المعمم وكثيرا ما نلتقى عند باب المصعد. تعودت أن أراعى فقط المزاج الذى أخطو بصحبته أول خطوة فى مسيرة اليوم. إن راح مزاجى فى اتجاه جونلة أو شورت فوق الركبة وقميص بلا أكمام لن أتردد ولن أراعى من خارج اعتبار المزاج سوى حالة الطقس. لا أظن أننى من النساء اللائى يخترن ما ترتديه الأخريات معيارا أو أراعيه اعتبارا. نعم أقف أمام المرآة وأمشى وأحاول أن أرانى من ظهرى قبل الخروج إلى الشارع. المرآة يا أستاذى رفيقتى التى لا تكذب. مرآتى تحمى فضائلى من حبائل التجاوز أو المبالغة. نشأنا معا ونضجنا معا ووضعنا معا منظومتنا الأخلاقية والجمالية واحترمناها. لم نتجمد عند مزاج معين أو أذواق عصر معين أو ثوابت أمى وخالتى، ولم نتقلب مع رغبات وتقلبات بنات مدرستى وزميلات المكتب وممثلات التلفيزيون». انتهى الاقتباس.
***
رأيت طفلة بين أطفال تقلد فى تصرف من تصرفاتها طفلا آخرا. تابعتها شهورا. تعلمت فى المدرسة والبيت والجامعة أن الطفل يقلد ومن الخير له أن يقلد. هذه الطفلة كانت تقلد بحرص شديد يكشف عن نضج مبكر أو طبيعة متأنية وحريصة. كانت تختار ما تقلده ومن تقلده. تجرب ما قلدته لفترة ثم تعود عنه أو تبقى عليه بعد أن تكسبه من عندها ما ينسجم مع أسلوبها فى اللعب أو الاختلاط أو الدرس. لم يكن التقليد طبيعة ثانية لها كحال أطفال آخرين فى المجموعة نفسها. أعترف أننى كدت أقتنع بأنها طفلة مكتملة الطفولة وأصارحك فى الوقت نفسه بأننى غير واثق من وجود معنى علمى ودقيق لهذه العبارة، طفل مكتمل الطفولة. أعرف أطفالا فى عمر البالغات والبالغين وأعرف نساء ورجالا لم تكتمل طفولتهم ولم تشرع شخصياتهم فى النضوج. الطفلة التى اتحدث عنها تعلمت أن تقارن يومها بأمسها وما أنجزته خلال أسبوع بما انجزته فى الأسبوع السابق. تقارن وتبلغنا أن خطها فى كتابة الحروف تحسن ولكنها لم تقارن فى أى يوم بين خطها وخطوط أطفال آخرين. القاعدة عندها أن تتفوق على نفسها وليس على الآخرين.
***
يطلق مفكرون على هذه السمة فى الشخصية تعبير التواضع، وهو فى رأى بعضهم سمة مذمومة. التواضع فى نظر بعض الفلاسفة جهل، والجهل سيئ، والأشياء السيئة لا يجوز التعامل معها كفضائل. التواضع فى نظرهم ليس فضيلة. آخرون يتهمون المتواضعين بأنهم فى حقيقة أمرهم يضعون أنفسهم فى مكانة أعلى من تلك التى يضعون فيها أقرانهم، وحين يشبون عن الطوق يتكبرون على أقرب الأهل وفى حالات أعرفها يرفضون الانتساب لهم.
المتواضعون يعتبرون التواضع فضيلة لا يمتلكها إلا القليلون. هناك من يعجبه الاختلاط بالمتواضعين. المتواضع لا يبث فى زملائه الملل الذى يبثه المتفاخرون ليل نهار بإنجازاتهم وما حصلوا عليه من جوائز أو ما ترشحوا لها. التواضع مفيد لأنشطة المجتمع الأهلى. الناشط المتواضع محبوب فى الأوساط الاجتماعية «المتواضعة» على عكس ناشط كثير التحدث عن فتوحاته ومكانته وعلو وظيفته واتساع شبكة معارفه فى الطبقات الأعلى من الحكم وفى المجتمع. كتبت فيلسوفة أمريكية تقول أن بعض الناس تنبهر بشخص طيب وذكى ولا يقدر نفسه حق قدره، هى ربما على خلاف كثر من مفكرى عصرها، عصر انتعاش النيولبرالية، ترى التواضع، باعتباره درجة من الجهل بإمكانات الشخص، فضيلة فى حد ذاته. كم من فتاة جميلة لم تقدر جمالها بما يستحق من تفاخر وإعلان وتباهى فوقع عليها الاتهام لكونها تتدلل. كم من شاعر خلف ثروة من الشعر لم يسمعها أهل عصره. كم من مبدع أثمر إبداعه عديد الاختراعات ولن يسجل التاريخ له أيا منها. أبدع وأنجز ومات واثقا من أنه فى حياته لن يرى اسمه فى قوائم العباقرة.
***
لا أظلم علوم وقيم الإدارة الحديثة ولكن حسبما فهمت من شرح زملاء مطلعين على البرامج الحديثة فى تعليم فنون الإدارة فى عصر ما بعد العولمة فإنهم، وأقصد المتخصصين الجدد، يرفضون أن يكون بين صفات المدير الناجح صفة التواضع. حتى الفيلسوف دافيد هيوم أتهم التواضع بأنه الصفة التى تلصق بالشخص سمعة الخنوع ومعانى البساطة والسخف والضعف. هذه السمعة والمعانى الملحقة بها تكونت عبر سنوات من تلقين الطفل، وهو مايزال طفلا ثم عندما يصير مراهقا، نصائح من نوع، كن هادئا، لا تتكلم عن نفسك كثيرا، غض بصرك وانظر دائما إلى قدميك وارسم على وجهك ابتسامة خالية من أى معنى، لا تطمح إلى بعيد. قيل لى أن الإدارة الحديثة ترفض الأخذ بهذه التجارب فى تربية النشء وتدريب المديرين. أستطيع فهم ما وراء هذا الرفض ولكنى وبعد أكثر من ثلاثة أو أربعة عقود من متابعة الجدل حول الموضوع أعترف أننى غير مرتاح إلى التجربة الجديدة، التجربة التى تسعى لخلق مدير شرس مختال بنفسه كالطاوس يتقاضى مكافآت فى حجم الثروات ويعمل من مكتب فاخر.
نعيش جميعا أسوأ عصور الرأسمالية. لا أقصد أسوأها من ناحية إنجازاتها المادية فالنمو الاقتصادى الكلى مستمر ولكن بثمن باهظ من فجوة شاسعة بين الطبقة الأغنى والطبقات الأخرى فى مختلف المجتمعات. النيولبرالية هى عنوان المرحلة وهى أيضا عنوان العصر الرأسمالى الأسوأ أخلاقيا وسياسيا ومعنويا وبيئيا وإنسانيا وحقوقيا بين كل عصور الرأسمالية. ومن علامات المرحلة الحط من قيمة التواضع والنفخ فى قيمة الزهو وعظمة التفوق على الآخرين والسابقين، ولا مانع من استباحة استخدام مفردات لغة مرفوضة أخلاقيا وأموال منهوبة وانتهاك حقوق الصغار من الموظفين وفئة العمال. يبدو أن اعتقادا يسود بأنه للمحافظة على هذه المرحلة من الرأسمالية يتعين أن تكون الفجوة بين الطبقات واسعة وأن يبدع المدير فى نشر انجازات حققها أو لم يحققها وفى المقارنة الدائمة بين عهده وعهود سابقيه.
***
«صديقى، أراك ملت ناحية أنصار التواضع. تذكر أننا التقينا ولم تنتبه كثيرا لوجودى. كنت متواضعة حسب فهمك لتواضع امرأة حديثة العهد بدنيا الأعمال والأفكار.. أنا الآن ضمن دوائرك، أدور فيها مع الدائرات والدائرين. أضع نفسى فى صدارة الفائزين بثمار عضويتى فى هذه الدوائر. تهتمون بآرائى وتشيدون بأعمالى وتفخرون بوجودى معكم وبينكم. سمعت عنك، يا صديقى، أنك تصفنى فى غيابى بأروع الصفات. تتحدث عن أناقتى ولباقتى ومكانتى. أنت الآن منتبه لكافة فضائلى التى لم تنتبه لها عندما التقينا أول مرة وأنا متواضعة، أنا الآن لست متواضعة ولا أصادق المتواضعات أو أرافق المتواضعين. أنا الأكفأ والأحسن والأجمل، أليس كذلك؟» انتهى هذا الاقتباس أيضا.