بقلم:جميل مطر
اجتمع الناس شرقا وغربا على إقناعى ثم إجبارى على ممارسة العزل الذاتى اتقاء لشر فيروس هائج قرر أن يصب هياجه على بشر معظمهم رجال بلغوا الثمانين أو تجاوزوها. أما لماذا اختار هذا النوع من البشر وهذا العمر فلم أجد إجابة مريحة عند أحد. بماذا نتميز ولا يتميز به إخواننا من البشر حتى صرنا هدفا لفيروس لم يجرب العيش معنا فى وئام قبل أن ينزل فتكا بنا؟ رحت أسأل نفسى وكل من دفعه الفضول ولم أحصل على ما يطفئ فضولى. قضيت معظم فترات المرض أو التمارض فى كل مراحل عمرى أقاوم قواعد وإجراءات عزلى، وقضيت معظم سنوات عمرى أتمنى ألا تفلح أيادى الغضب السياسى فى عزلى أو إجبارى على عزل نفسى. يبدو الآن أن غضب الفيروس أفلح فيما فشل فيه غضب السياسى. ها أنا أجلس فى بيتى مستسلما لرغبة عائلية وقد رتبت أمورى على حال انعزال قد يستمر لأكثر من أسابيع معدودة. ضغط الفيروس على السياسى فضغط السياسى على بناتى فضغطن بدورهن فاستسلمت.
***
تجذبنى المخاطر وأكره العزل لأنه يبعدنى عن مصادر التهلكة.. كنت فى العشرينيات من عمرى عندما تعرضت لآلام شديدة فى معدتى. فحصنى أحسن الأطباء فى روما، حيث كنت أعمل، وأشهر الأطباء فى فيينا عاصمة النمسا، حيث كان يقيم أقرب الأنسباء. اتفق الطبيبان، بعد أن حصلا على دعم مطلق من رئيس أطباء الأشعة فى جامعة روما، اتفقا على ضرورة إجراء عملية خطيرة جدا بالمعدة. تداول الزملاء فى الأمر، ورفعوا قرارهم إلى رئيسنا فى العمل. كان رجلا حكيما وعالما وأمينا. تحدث مع زوجتى وأقنعها بضرورة إجراء العملية ووعد بأن يسعى لدى طبيب شهير فى لندن ليحجز لنا موعدا، وفى ظنه أنها سترتاح فسمعة الطب الإنجليزى لا تمتد إليها الظنون. ساد التوتر ولم أشعر إلا ببعضه إذ كان قرارهم التهوين أمامى من أمر العملية. لم يمر على خواطرهم احتمال أن يكون الخطر بالنسبة لى مصدر إثارة. جميعهم طلبوا من رئيس العمل أن يوافق على إجراء العملية فى روما ليكونوا إلى جانبى وجانب عائلتى الصغيرة.
سئلت فيما بعد من زملائى وزوجتى عن هذا الاستسلام الغريب، وأنا فى هذه السن الصغيرة، لقرار على هذا القدر من الخطورة على حياتى، وهى الخطورة التى أعاد التأكيد عليها كل الأطباء الذين فحصوا وناقشوا وقرروا. أحد الأطباء وهو الطبيب الذى نصح بإجراء العملية وطبيب التخدير أسرا لى بعد أسابيع من إجراء العملية أنهما حاولا إثنائى عن موقفى وأنا على أهبة الدخول إلى غرفة العمليات، وإنهما استعانا فى تلك اللحظة بالجراح بعد أن انتهى للتو من صلاة أداها أمام تمثال العذراء. انضم إليهما الرجل الكهل مبديا استعداده إصدار تعليمات بتأجيل العملية إن نجحا فى إقناع المريض وأعرب لهما بالفعل ولكن بطى الرغبة فى الكتمان عن رغبته فى التأجيل. جاءوا بزوجتى وأمها وزملاء فى العمل. يقولون إننى رفضت بتصميم مريب.
***
كتبت فى موقع آخر لقطات من هذه الرواية من حياتى، ولم أكتب حتى الآن بقية اللقطات. ولا أظن أننى سوف أكتبها كاملة. أكتب لقطات متفرقة فى مناسبات متفرقة كما فى مناسبة اليوم. أنا فى عزل ذاتى فرضته على نفسى مقتنعا بوجاهته فالخطر الذى يهدد حياتى، خطر قادر على إنهائها، تماما وإن فى مناسبة مختلفة، كان الخطر متمثلا فى إجراء عملية جراحية جاثما وقادرا على إنهاء حياتى. اختلفت الحالتان فى أنه فى الحالة الأولى كنت أنا الطرف الذى بيده القرار، أما فى الحالة الثانية فالقرار هو فى يد فيروس لم أره ولم يأخذ رأيى. فى الحالتين كانت النهاية قريبة جدا وكان بيدى أن أساهم فى أن أجعلها أقرب. نعم. أعرف أن موعدها الدقيق جدا مقرر سلفا، ولكن الخالق شاء فسمح بمساحة فى علاقتنا أشعر فيها أنه يدفعنى للمشاركة، ليس فى صنع هذا القرار ولكن فى إبداء الرأى فى بعض مراحل وأشكال التنفيذ. عندى مساحة من الحرية تسمح لى بأن أجعل هذا العمر أطول بغزارة ما حققت فيه من سعادة. هذه المساحة من الحرية هى التى تسمح لى، ولغيرى، بأن أجعله عمرا قصيرا إن قررت أن أعيشه تعيسا. القرار قرارى.
***
كتبت عن سنوات ما بعد الثمانين. وصفتها بأحلى أيام العمر. الآن وأنا فى العزل الذاتى أفكر أننى كنت على حق. كانت فرصة أعادتنى أو أعادت لى تفاصيل الروايات الأحلى عن فصول فى حياتى. تأكدت وأنا أشاهد شريطا بعد شريط أن فى حياتى سنوات أطول من عمر السنين المتعارف عليه. أشاهد وفى غمرة المشاهدة أسأل هل حقا عشت كل تلك السعادة. اكتشفت أن فى حياتى لحظات سعادة عشت كل واحدة منها عمرا أطول من عمر إنسان لم يعش لحظة سعادة واحدة حتى الثمالة.. وأسأل، أين وجدت هذه الساعات والأيام لأضيفها إلى ساعات وأيام العام الذى جرت فيه أحداث هذه الرواية. ثم أسأل نفسى، رفيقتى فى العزل الذاتى، كيف استطعنا أنت وأنا أن نجمع كل هذا الحب فى قلب واحد، ومن أى ينبوع غرفنا كل هذه السعادة. تعالى، ونحن فى هذا العزل الناعم، ندقق فى أعماق ذاكرتنا المشتركة لنعرف من أين أخذنا الحكمة التى جعلتنا نقرر أنه لا فرق بين كبير وصغير أو بين غنى وفقير إلا فيما خلفه هذا أو ذاك من حب وطمأنينة. علمتنا أن لا شىء يعادل مشاعر الحب، كانت القوة العظمى التى لم تتخل عنا فى كل مرة لجأنا إليها لتهدئة غضب أو ترطيب جفاف أو إزاحة خطر.
***
يرن الهاتف الذكى معلنا وصول رسالة. أبحث عنه بين كراساتى. أما الرسالة فموجزة فى كلماتها وغزيرة فى معانيها «صباح الخير. نفتقدك فى عزلتنا».