بقلم:جميل مطر
بعد فترة من صخب أقل عدنا نسمع ما يذكِّرنا بالصخب الذي كانت تصدره القوى العظمى خلال عقود خلت... كثير من أبناء جيلي لا شك يذكرون أصداء الصراع الدائر وقتذاك بين الاتحاد السوفياتي من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى... كنا في عالمنا الثالث بين مستعذب أصداء صراع الكبار ومستفيد منه وبين ضحية له، وكلنا على أي حال متفهمون حقيقة أننا لسنا طرفاً. القطبان الأعظمان يزعمان في كثير من تصرفاتهما أنهما من حملة رسائل الجنس الأبيض إلى أجناس البشرية غير البيضاء... لم يعلنا صراحةً انتماءهما إلى هذه العقيدة السخيفة على عكس ما فعل بعض أجدادهما في القرن الأسبق عندما تسابقت معظم حكومات الشمال لتحتل معظم أراضي الجنوب بذريعة نشر قيم الإنسان الأبيض بين بشر لم تصل إليهم حضارة من أي نوع حسب زعم الرسل البيض.
عاش جيلي مرحلة ساد الظن فيها أنها كانت آخر مراحل العصر الإمبراطوري... كان ظناً خائباً كظنون أخرى تسربت إلى تكويننا الذهني والأخلاقي... أذكر جيداً كيف أنني غضبت من أستاذ تاريخ رفض أن يدرج الولايات المتحدة في قائمة الإمبراطوريات الكبرى... كنا ندرس في كتب صادرة في إنجلترا وفرنسا وأميركا... هناك، وربما حتى يومنا هذا... حاولت مناهج التعليم تأكيد أن الولايات المتحدة خرجت لتصدّ عن البشرية شرور الإمبراطوريات الأوروبية وقيمها القمعية وطبيعتها الاستبدادية. أميركا، بدستورها الشهير وثورتها الأشهر ضد الإمبراطورية البريطانية، تحمل رسالة متحضرة ومنظومة قيم ترفض جوهر منظومة القيم التي تبشّر بها الإمبراطوريات الغربية الأخرى... كان هذا هو ما حملته لنا كتب العلوم السياسية في تلك السنوات المبكرة من مشوارنا الأكاديمي والسياسي.
نشأنا ومعنا مشكلتان تعقّدان فهمنا لأميركا. كانت لنا مشكلة مع مفاهيم استخدمها مؤرخون عند الكتابة عن مراحل توسع الولايات المتحدة غرباً وجنوباً... لتصبح أميركا التي نعرفها الآن. رفضوا إطلاق صفة الإمبريالية على حروبها مع المكسيك وإسبانيا في الأميركتين وما بينهما وحربها واحتلالها الفلبين، وما إن حصلت الولايات المتحدة على استقلالها إلا وانطلقت تمارس دوراً وسياسات كادت تتطابق مع سياسات وأدوار إمبراطوريات قائمة مثل الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية والبريطانية. كانت لنا مشكلة أخرى، ولا تزال معنا حسبما أتابع وأسمع وأقرأ. كنا في عملنا الدبلوماسي ننفذ تلقينات من رؤساء عمل تتلمذوا على أيدي مدرسة فكرية معروفة لعلماء السياسة والمخضرمين في الدبلوماسية. جرى تدريبنا حسب منهج يبارك السياسة الخارجية الأميركية باعتبارها صادرة عن دولة عظمى من دون تاريخ إمبراطوري وإن كانت على الخريطة على جدران مكاتبنا إمبراطورية الحجم وفي الساحة الدولية وفي ساحتنا الإقليمية، أي هنا في شرقنا الأوسط، إمبراطورية الأداء والقيادة والدور.
سعيت خلال تجربتي الدبلوماسية قصيرة الأمد في الصين والعزلة الأكاديمية التي فتحت أمامي في الغرب فرصاً غير متوقعة، سعيت لفهم أفضل وأعمق لهذه الإمبراطورية الشاسعة فكراً وعقيدةً وتاريخاً وقيادةً، والعميقة تغلغلاً وهيمنةً. عرفت مثلاً خلال هذا السعي ونتيجة له معنى أن يكون الفرد مواطناً في إمبراطورية. نماذجي عديدة وصارخة. لا أذكر أنني قابلت في الصين فرداً واحداً على انفراد أو ضمن جماعة... رجل شارع أو رجل دولة... يعيش في بكين أو في مكاو وهونغ كونغ... في ظل ماويّة الرئيس ماو تسي تونغ أو في ظل انفتاح الرئيس دينغ شاو بنغ.... لا يفخر بإمبراطورية الصين وطناً وتاريخاً وفلسفة حياة وحقوق. أؤكد هنا أن كلمة إمبراطورية كانت من الكلمات غير المحببة لدى مروّجي آيديولوجية الحزب إلا إذا أتت في إطار الحديث عن الغرب. وأظن، بشرط أن تساعدني الذاكرة، أنني لم أقابل مواطناً إنجليزياً ينتقد تاريخ بلاده وإنجازات الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس إلا منذ عقود قليلة. أغلب الإنجليز المتعلمين يتحدثون بإعجاب عن كيف كان هبوط هذه الإمبراطورية متحضراً ومتدرجاً. السويس في نظر بعضهم كانت خطاً سياسياً وليس خيانةً للإمبراطورية. أتصور أيضاً، ولست الخبير المدقق في سلوكيات المواطنين اليابانيين، أتصور أن الفرد الياباني رفض حتى يومنا هذا إلقاء عار الهزيمة على إمبراطور اليابان وجنوده وقادة جيوشه. سمعنا الكثير عن رقي ووطنية الطبقة التي قادت اليابان من عظمة إلى عظمة، ودخلت حرباً، هي الأولى من نوعها التي تشن من شعب ملون ضد شعب أبيض تمثله الإمبراطورية الروسية وفرضت عليها هزيمة شقّت جدار كبرياء الروس وتركته يعاني التشقق لعقود عديدة. نعرف أيضاً أن الكوريين، كلهم، يحملون في قلوبهم شتى أنواع الكره المقيت والضغينة للإمبراطورية اليابانية التي استعبدت أغلب شعوب آسيا وخلّفت وراءها آثار كره وبخاصة لدى شعب منشوريا وتايوان في الصين وشعب كوريا قبل أن تتجزأ كوريتين وبعده. إمبراطوريات خلفت لشعوبها الأمجاد ولشعوب أخرى الذل والعار.
قبل سنوات تحدث معي مواطن صيني في هذا الموضوع... موضوع ما خلّفته عصور الإمبراطورية في أراضيها وشعوبها الأصلية وفي أراضي وشعوب الجوار... قال إنه وقد عاش هو نفسه في الولايات المتحدة يدرس ويحاضر... لم يسمع طوال إقامته مواطناً أميركياً بين زملائه وأقرانه في الجامعات يفخر بتاريخ الإمبراطورية الأميركية ابتداءً من حروب الإبادة التي مهّدت التوسع في الغرب وانتهاءً بحرب العراق... وكلها في رأيه حروب إمبريالية أسوأ من أشد حروب الإمبراطوريات الأخرى قسوة وعنفاً ووحشية، بل لعلها الأسوأ في التاريخ. راح الزميل الصيني يقارن بين المواطن الأميركي والمواطن الصيني سواء في المهجر أو في الصين. يعتقد من خلال تجربته الواسعة، وأضم اعتقاداً من عندي إلى اعتقاده، أنه في الغالب لن يوجد بين الصينيين كثيرون لا يفخرون بماضي إمبراطورياتهم ويتمسكون بالقواعد الفلسفية التي بُنيت عليها أصول بيروقراطياتهم وتقاليد لغتهم وثقافتهم. لا ينكرون مراحل مظلمة في تاريخهم الإمبراطوري وقسوةً وعبوديةً وقهراً للنساء وشعوب الجوار. ها هم يشيدون بتقدم طرق تجارتهم القديمة إلى حد إعادة تشغيلها من دون تغيير كبير يُذكر، يتحدون بها إنجازات إمبراطوريات أحدث ولكن ليست أقدم.
لماذا الآن؟ أتصور أنه في سياق اشتعال منافسة تاريخية بين قوى عظمى راحت كل قوة منها تحشد ما في تاريخها من حقب إمبراطورية وتستعين بما خلّفته من عقائد وفلسفات وسير وبطولات تعوّض بها هزائم وانكسارات ونكسات لم تفلت منها إمبراطورية من الإمبراطوريات التاريخية. الكل يحشد. روسيا تبعث المرتزقة إلى أفريقيا، كما فعلت في جمهورية أفريقيا الوسطى وتفعل في شرق المتوسط ودول جوارها. الصين ربما فكّرت في التعجيل بتحويل بعض مبادراتها الاستثمارية التنموية إلى تسهيلات عسكرية حسبما يتردد أنها فعلت في جنوب كمبوديا. حتى أميركا لم يستقر قرارها بين إعادة جنود إلى الوطن وإرسال جنود إلى الخارج. الكل على كل حال مشترك في سباق تسلح رهيب وفي سباق إمبريالي يكاد لا يختلف في الجوهر بين سباق الإمبراطوريات البيضاء على امتداد القرون في اتجاه الأسواق والمواد الخام. الجديد في السباق الناشب حالياً أنه مشحون بطاقة عنصرية بغيضة تغذّيها موروثات شعبية لا تغفر ولا تنسى.