توقيت القاهرة المحلي 22:02:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الغائب بالحنين حاضر

  مصر اليوم -

الغائب بالحنين حاضر

بقلم:جميل مطر

ذات ليلة بعينها التقيت قرب نهايتها وبالمصادفة المحضة بأغنية برتغالية، بصوت عرفت فى الصباح التالى أنه لسيدة كانت شهرتها فى بلدها تعادل فى تلك الأيام شهرة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم. لم تكن أغنية كغيرها من الأغانى نسمعها فنبتهج أو نسمعها فنبتئس وفى اللحظة التالية ندير مؤشر الراديو بحثا عن غيرها ثم ثالثة ورابعة. كانت مختلفة. لا أذكر أنى تعاملت فى حياتى مع أغنية كما تعاملت ليلتها وبعد ليلتها مع هذه الأغنية. قيل لى الكثير فى تفسير ما وقع بيننا، الأغنية وأنا. قيل «كنت ولا شك حزينا»، قيل أيضا «نعرفك وأنت فى سن الشباب كنت جامحا فى التعبير عن عواطفك وهى فى الأصل جامحة»، وقيل «كنت تحلم بأغنية أضفيت عليها بخيالك الخصب ما ليس فيها وأسبغت عليها من عواطفك بعض فيضها».
اسم المغنية إيميلا رودريجيز وعنوان الأغنية «قارب أسود»، ونصها باللغة البرتغالية. أذكر جيدا أننى كنت أجلس فى شرفة تطل على محيط. الظلام من حولى حالك فى ليلة نهايتها تقترب من الفجر ولا شبهة لقمر أو نجوم فى سمائها. السكون أيضا كامل ومطبق، كلاهما الظلمة الحالكة مع السكون المطبق أطلقا للمشاعر العنان. استمعت إلى الأغنية تنساب من جهاز راديو فى بيت فى الجوار ظننته مهجورا. لم تصل جميع الكلمات واضحة وما كنت لأفهمها حتى لو وصلت واضحة، فالبرتغالية كنت أجهلها. الغريب فى الأمر، كان غريبا فى ليلتها ولا يزال غريبا بعد مرور حوالى نصف قرن من الزمن، هو أن اللحن وصوت إيمليا رودرجيز والمكان والأجواء والمشاعر المكنونة كلها عوضت عن نقص الدراية باللغة وعدم وضوح كثير من كلمات الأغنية الصادرة من جهاز راديو بعيد عنى، فإذا بى أتخيل نفسى كاتبها مقتنعا بأن أى أحد فى مكانى وموقعى فى تلك الليلة كان سيكتب ما كتبه الشاعر الذى صاغ الأغنية.
***
جلست ذات صباح باكر من أيام الأسبوع الفائت أراجع ما نشرته المواقع خلال الليل. أوقفنى عنوان مقال تتوسطه كلمة بالبرتغالية أثارت على الفور فى نفسى أسئلة ومشاعر مثل تلك التى تثيرها تجربتى المتواصلة مع أغنية القارب الأسود التى غنتها إيمليا رودريجيز واستمعت إليها لأول مرة فى ذات ليلة مشهودة قبل نصف قرن. فهمت من المقال أن أدباء فى البرازيل والبرتغال ما زالوا لم يتوصلوا إلى ما تعنيه بالدقة كلمة «ساوداجى». بعيدا عن الدقة يمكننا الاكتفاء بأبسط تعريف وهو «الشوق». ومع ذلك تفرض الدقة علينا وعليهم البحث عن تعريف أوسع بالعودة إلى أصل الكلمة. نشأت الكلمة، كما نعرفها اليوم، فى القرن الثالث عشر فى قصائد الشعراء فى وصفهم لحال النساء اللائى يقضين سنوات عديدة ينتظرن عودة الرجال الذين راحوا فى رحلات الاستكشاف البحرى وغابوا. نعرف أن البرتغال ربما كانت الأمة الأكثر ركوبا للبحار فى تلك العصور، عصر الاستكشافات والتجارة مع الشرق والقرصنة والاستعمار. رجال كثيرون رحلوا وغابوا والنساء فى انتظارهم يتسلين بالتعبير عن الشوق والحنين. يجتمعن عند الشاطئ الذى شهد رحيل الرجال. يحملقن فى ضباب المحيط فتتراءى لهن السفن وهى تمخر عبابه نحو المجهول. يغنين أغانى الحنين ويخاطبن أمواج المحيط لعلها فى عودتها تجلب لهم الرجال والهدايا التى حملوها. هكذا تشكلت ثقافة الساوداجى، تسمع ألحانها فى البرتغال حزينة وفى البرازيل كأى ألحان أخرى فرحة ومبهجة باستثناءات لها مغزى، استثناء منها يستحق أن نقترب منه ولو بحذر.
***
كثيرة هى الأمم التى تستذكر مناسباتها بالبهجة والفرحة، وكثيرة أيضا الأمم التى تستذكرها بالحزن والعبوس. أغانى النوستالجيا فى البرتغال تكشف عن طبيعة حزينة على عكس أغانى النوستالجيا فى البرازيل. أفهم ظاهرة البكاء والنواح فى الثقافة البرتغالية المحافظة غالبا. تغنى ايميليا فتقول «كلهم مجانين.. كلهم مجانين.. أنا أعرف، يا حبيبى، أعرف أنك لم ترحل... وكل شيء من حولى يقول لى إنك ما زلت هنا معى... فى الصباح كم خفت أن تجدنى بشعة.. استيقظت أرتجف مستلقية على الرمل.. ولكن فورا عيونك قالت.. لا. عندها دخلت الشمس قلبى. العجوزات على الشاطئ قلن إنك لن تعود. هن مجنونات.. هن مجنونات. أعلم يا حبيبى أنك لم تغادر أبدا، لأن كل شيء حولى يقول إنك دائما معى».
وفى الأغنية أيضا «فى الرياح التى ترمى الرمال على الشبابيك
فى المياه التى تغنى فى النار المحتضرة
فى حرارة قعر القوارب الخالية
داخل صدرى أنت دائما معى
أعلم يا حبيبى أنك لم تغادر أبدا
***
أمارس الحنين أحيانا، بل كثيرا. أجد فيه متعة تغنى عن متع أخرى مكلفة أو مخلفة توابع تؤذى. علمتنى ليالى الزمان أنه بالحنين العاقل يحضر الغائب، نعيش معه دقائق أو ساعات. علمتنى أنه بالحنين نتواصل مع ما فات ولم نلحق به. علمتنى أيضا أنه بالحنين نتواصل مع من أسعدنا ولم نسعده ومع من أذانا ولم نسامحه.
***
كثيرون فى حياتى أبحروا. عاد بعضهم وغاب آخرون. الغائبون لم يبتعدوا كثيرا. هم هناك عند الأفق. فى الليلة الحالكة يظهر لى غائب منهم فى قارب أسود. نختفى معا فى حضن الضباب ليحكى لى ما غاب عنى وأحكى له ما غاب عنه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الغائب بالحنين حاضر الغائب بالحنين حاضر



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon