بقلم:جميل مطر
ذات ليلة بعينها التقيت قرب نهايتها وبالمصادفة المحضة بأغنية برتغالية، بصوت عرفت فى الصباح التالى أنه لسيدة كانت شهرتها فى بلدها تعادل فى تلك الأيام شهرة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم. لم تكن أغنية كغيرها من الأغانى نسمعها فنبتهج أو نسمعها فنبتئس وفى اللحظة التالية ندير مؤشر الراديو بحثا عن غيرها ثم ثالثة ورابعة. كانت مختلفة. لا أذكر أنى تعاملت فى حياتى مع أغنية كما تعاملت ليلتها وبعد ليلتها مع هذه الأغنية. قيل لى الكثير فى تفسير ما وقع بيننا، الأغنية وأنا. قيل «كنت ولا شك حزينا»، قيل أيضا «نعرفك وأنت فى سن الشباب كنت جامحا فى التعبير عن عواطفك وهى فى الأصل جامحة»، وقيل «كنت تحلم بأغنية أضفيت عليها بخيالك الخصب ما ليس فيها وأسبغت عليها من عواطفك بعض فيضها».
اسم المغنية إيميلا رودريجيز وعنوان الأغنية «قارب أسود»، ونصها باللغة البرتغالية. أذكر جيدا أننى كنت أجلس فى شرفة تطل على محيط. الظلام من حولى حالك فى ليلة نهايتها تقترب من الفجر ولا شبهة لقمر أو نجوم فى سمائها. السكون أيضا كامل ومطبق، كلاهما الظلمة الحالكة مع السكون المطبق أطلقا للمشاعر العنان. استمعت إلى الأغنية تنساب من جهاز راديو فى بيت فى الجوار ظننته مهجورا. لم تصل جميع الكلمات واضحة وما كنت لأفهمها حتى لو وصلت واضحة، فالبرتغالية كنت أجهلها. الغريب فى الأمر، كان غريبا فى ليلتها ولا يزال غريبا بعد مرور حوالى نصف قرن من الزمن، هو أن اللحن وصوت إيمليا رودرجيز والمكان والأجواء والمشاعر المكنونة كلها عوضت عن نقص الدراية باللغة وعدم وضوح كثير من كلمات الأغنية الصادرة من جهاز راديو بعيد عنى، فإذا بى أتخيل نفسى كاتبها مقتنعا بأن أى أحد فى مكانى وموقعى فى تلك الليلة كان سيكتب ما كتبه الشاعر الذى صاغ الأغنية.
***
جلست ذات صباح باكر من أيام الأسبوع الفائت أراجع ما نشرته المواقع خلال الليل. أوقفنى عنوان مقال تتوسطه كلمة بالبرتغالية أثارت على الفور فى نفسى أسئلة ومشاعر مثل تلك التى تثيرها تجربتى المتواصلة مع أغنية القارب الأسود التى غنتها إيمليا رودريجيز واستمعت إليها لأول مرة فى ذات ليلة مشهودة قبل نصف قرن. فهمت من المقال أن أدباء فى البرازيل والبرتغال ما زالوا لم يتوصلوا إلى ما تعنيه بالدقة كلمة «ساوداجى». بعيدا عن الدقة يمكننا الاكتفاء بأبسط تعريف وهو «الشوق». ومع ذلك تفرض الدقة علينا وعليهم البحث عن تعريف أوسع بالعودة إلى أصل الكلمة. نشأت الكلمة، كما نعرفها اليوم، فى القرن الثالث عشر فى قصائد الشعراء فى وصفهم لحال النساء اللائى يقضين سنوات عديدة ينتظرن عودة الرجال الذين راحوا فى رحلات الاستكشاف البحرى وغابوا. نعرف أن البرتغال ربما كانت الأمة الأكثر ركوبا للبحار فى تلك العصور، عصر الاستكشافات والتجارة مع الشرق والقرصنة والاستعمار. رجال كثيرون رحلوا وغابوا والنساء فى انتظارهم يتسلين بالتعبير عن الشوق والحنين. يجتمعن عند الشاطئ الذى شهد رحيل الرجال. يحملقن فى ضباب المحيط فتتراءى لهن السفن وهى تمخر عبابه نحو المجهول. يغنين أغانى الحنين ويخاطبن أمواج المحيط لعلها فى عودتها تجلب لهم الرجال والهدايا التى حملوها. هكذا تشكلت ثقافة الساوداجى، تسمع ألحانها فى البرتغال حزينة وفى البرازيل كأى ألحان أخرى فرحة ومبهجة باستثناءات لها مغزى، استثناء منها يستحق أن نقترب منه ولو بحذر.
***
كثيرة هى الأمم التى تستذكر مناسباتها بالبهجة والفرحة، وكثيرة أيضا الأمم التى تستذكرها بالحزن والعبوس. أغانى النوستالجيا فى البرتغال تكشف عن طبيعة حزينة على عكس أغانى النوستالجيا فى البرازيل. أفهم ظاهرة البكاء والنواح فى الثقافة البرتغالية المحافظة غالبا. تغنى ايميليا فتقول «كلهم مجانين.. كلهم مجانين.. أنا أعرف، يا حبيبى، أعرف أنك لم ترحل... وكل شيء من حولى يقول لى إنك ما زلت هنا معى... فى الصباح كم خفت أن تجدنى بشعة.. استيقظت أرتجف مستلقية على الرمل.. ولكن فورا عيونك قالت.. لا. عندها دخلت الشمس قلبى. العجوزات على الشاطئ قلن إنك لن تعود. هن مجنونات.. هن مجنونات. أعلم يا حبيبى أنك لم تغادر أبدا، لأن كل شيء حولى يقول إنك دائما معى».
وفى الأغنية أيضا «فى الرياح التى ترمى الرمال على الشبابيك
فى المياه التى تغنى فى النار المحتضرة
فى حرارة قعر القوارب الخالية
داخل صدرى أنت دائما معى
أعلم يا حبيبى أنك لم تغادر أبدا
***
أمارس الحنين أحيانا، بل كثيرا. أجد فيه متعة تغنى عن متع أخرى مكلفة أو مخلفة توابع تؤذى. علمتنى ليالى الزمان أنه بالحنين العاقل يحضر الغائب، نعيش معه دقائق أو ساعات. علمتنى أنه بالحنين نتواصل مع ما فات ولم نلحق به. علمتنى أيضا أنه بالحنين نتواصل مع من أسعدنا ولم نسعده ومع من أذانا ولم نسامحه.
***
كثيرون فى حياتى أبحروا. عاد بعضهم وغاب آخرون. الغائبون لم يبتعدوا كثيرا. هم هناك عند الأفق. فى الليلة الحالكة يظهر لى غائب منهم فى قارب أسود. نختفى معا فى حضن الضباب ليحكى لى ما غاب عنى وأحكى له ما غاب عنه.