بقلم : جميل مطر
ما كان فى حسبان رجب طيب أردوغان أن رد فعل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب سيكون عنيفا إلى هذا الحد. لم يتوقع الأتراك أن يصل غضب ترامب على إصرار أردوغان على احتجاز القس الأمريكى إلى حد التسبب فى أزمة أصابت الاقتصاد التركى إصابة جسيمة. لم يكن كل شىء فى العلاقات التركية الأمريكية على ما يرام قبل احتجاز القس، ولكن استطاع الطرفان الإبقاء على سفينة العلاقات طافية اعتمادا على الإعجاب الشخصى المتبادل بين الرئيسين. ترامب من جهته كان يرى فى أردوغان نموذجا للحاكم القوى الذى يحكم بدون اعتبار شديد لقوى معارضة أو لقواعد دستورية. أما أردوغان فكان يرى فى الرئيس ترامب نموذج القائد الغربى الذى تجاسر فكشف عن الحال المتردى لمعسكر الغرب. أعجبه أن يكون شاهدا على زعماء دول غربية يتلقون الإهانة بعد الأخرى من الرئيس ترامب، وبعضهم سبق أن أساء إلى تركيا حين تعمدوا وضع العراقيل أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى. فات على الرئيسين، التركى والأمريكى، أن السمات التى تميز بها كل منهما وكانت وراء إعجابهما ببعضهما البعض هى نفسها السمات الكفيلة بأن تجعل العلاقات بينهما شديدة الحساسية. فات أيضا على كثير من المعلقين الذين اندهشوا لقسوة الانتقام الأمريكى أن الصدام كان دائما متوقعا، وبالأخص منذ أن وصل أردوغان على رأس تيار متطرف قوميا مدافعا عن رغبة أكيدة فى انتهاج سياسة خارجية مستقلة ونية قوية فى تنويع العلاقات ووقف سمعة التبعية للغرب.
عاشت الجمهورية التركية عقودا عديدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى تمارس تقليد الغرب تماما مثلما عاشت الإمبراطورية العثمانية فى قرونها الأخيرة. غرست هذه الممارسة فكرة أن العالم بأسره يدور حول محور الغرب. هيمنت المركزية الأوروبية على العقل السياسى التركى وفى الوقت نفسه كانت السبب المباشر وراء اعتناق الطبقة الحاكمة بعض أفكار التمرد على هذا الوضع الموروث عن الإمبراطورية. خالطت بحكم المهنة عددا من الدبلوماسيين والصحفيين فى عهود متفرقة ومن أعمار مختلفة وكان غالبا ما يخالجنى الشعور بأنى أتعامل مع متدربين. خرجت من خبرة علاقاتى بأتراك، قبل وصول أردوغان إلى الساحة، بما يقترب من الاقتناع بأن فى تركيا ثقافة سياسية من خليط تجارب لم تكتمل واحدة منها، تجربة تغريب لم تكتمل مع تجربة استقلال لم تكتمل مع تجربة ديمقراطية ليبرالية وفصل السياسة عن الدين لم تكتمل، مع تجربة التخلص من هيمنة العسكريين وهذه بدورها لم تكتمل. تركيا صندوق تجارب جميعها لم تصل إلى نهاياتها المنطقية.
***
وصل أردوغان فى لحظة سياسية لها مدلولاتها. وصل حين كانت القطبية الواحدة توشك على إعلان سقوطها والصين على وشك تأكيد نيتها الصعود حتى النهاية، حتى القمة، وروسيا وقد اكتشفت حجم اختراق الغرب وتخريبه مؤسسات الدولة واقتصاداتها، والهند بملامح ونية المستفيد من العولمة. وصل أردوغان حين كانت المسافات تضيق بين تركيا من ناحية وعدد متزايد من دول غربية تجارة ومؤسسات واقتصاد وفى وقت شهد انحسار الرغبة الغربية فى نشر قيم الغرب والدفاع عن الديمقراطية. فى ذلك الحين ظهرت علامات تشير إلى رغبة قوية لدى قطاع واسع من النخبة السياسية لانتهاج سياسة مستقلة عن سياسات الغرب فى وقت لم تعد غائبة نية دول فى الاتحاد الأوروبى وبخاصة ألمانيا وفرنسا استبعاد فكرة قبول تركيا عضوا فى الاتحاد الأوروبى.
عادت تهيمن على العقل التركى الشكوك حول نوايا الغرب تجاه تركيا. بل وتعددت فى السنوات الأخيرة استقصاءات الرأى تؤكد حالة تطرف فى هذه الشكوك. ففى ديسمبر من العام الماضى 2017 حمل 79 بالمائة من الأتراك على الولايات المتحدة واعتبرها 54 بالمائة أهم خطر يهدد تركيا. ويسود فى الرأى العام الاقتناع بأن الغرب وبخاصة الولايات المتحدة يقفان وراء الانقلاب العسكرى الفاشل فى يوليو 2016، وهو الانقلاب الذى استفاد منه أردوغان ليؤكد به شعبيته وشرعيته. غير خاف على كل حال فى أنقرة ومواقع جميع الأحزاب التركية أن الكونجرس الأمريكى يكره تركيا، أو هذا على الأقل ما يحاول الإعلام الأمريكى والتركى تثبيته ولا يصدر عن الكونجرس بمجلسيه إلا ما يؤكده. لا تخفى أيضا حقيقة أن جماعات ضغط غير ضعيفة التأثير تعمل منذ زمن على الإساءة إلى مكانة تركيا فى الولايات المتحدة وعلى رأسها جمعيات المغتربين الأرمن ومنظمات تعمل فى خدمة مصالح اليونان وكذلك الماكينة السياسية الهائلة التى تعمل لصالح إسرائيل، وإن كانت غير منضبطة الأداء والمواقف فى حملاتها تجاه تركيا لأسباب مفهومة مثل اختلاف مواقف كل من إسرائيل وتركيا حول التعامل مع إيران والوجود فى البحر الأحمر والقضية الفلسطينية وقضايا الأكراد.
هناك بدون شك عناصر تشجع الطرفين الأمريكى والتركى على عدم المغالاة فى حملاتهما المتبادلة. يصعب مثلا تصور أن تضحى المؤسسة العسكرية الأمريكية بتركيا أو قواعدها كجزء حيوى فى الاستراتيجية الدفاعية للغرب. وبالمثل يصعب، حتى هذه اللحظة، تصور تخلى تركيا عن المنافع التى تعود عليها مقابل عضويتها فى الحلف الأطلسى. فى هذه الحالة يبقى الحلف أهم دوافع ضرورة اعتدال الطرفين فى حربهما السياسية والاقتصادية والإعلامية يليه واقع الشبه الكبير بين الشخصيتين. كلاهما اختار الشعبوية شكلا لتحشيد الرأى العام وراء شخص الحاكم. يختلفان ولكن فى الغالب يفضلان الاعتماد على ما يتفقان فيه وليس ما يختلفان حوله. هذا على الأقل هو أمل الشعبويين فى كل مكان. أملهم أن تنشأ «أممية شعبوية» تضم فى صفوفها يساريين ويمينيين. أظن أن ستيف بانون لا يزال فى اعتقادى يفكر للبيت الأبيض ويجمع صفوف الشعبويين من كل التيارات فى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول فى أوروبا الشرقية والهند، ولا أستبعد انتقاله قريبا إلى أمريكا اللاتينية. العقبة الوحيدة التى يمكن أن يتحطم فوقها كل آمال الاعتدال وتهدئة التوتر بين ترامب وأردوغان ستكون الإسلام كعقيدة تركيا الدينية، فترامب من ناحية وبانون من ناحية أخرى كلاهما يكرهان هذا الدين ولن يتغيرا.
***
الأتراك يحبون الروس أو هكذا تتردد نغمة فى الإعلام التركى. أردوغان كان ولا يزال نموذجا للقائد الواقعى وأظن أنه سيبقى على هذا التوجه. لن يكون فى مصلحة المؤسسة الأمنية الغربية إلقاء تركيا فى سلة موسكو أو الصين، ولن يكون فى مصلحة النخبة الاقتصادية التركية أن تلعب دورا تابعا فى موجة الاستثمارات الصينية تحملها مبادرة طريقى الحرير والحزام. يستطيع أردوغان مدفوعا بعناده الأسطورى وكره الأتراك للغرب أن يصعّد مواجهته مع ترامب ومع ميركل فيكسب شعبية أوسع. يستطيع أيضا بواقعيته المشهودة وبتدهور الوضع المالى للبلاد أن يخلد قليلا إلى الهدوء حتى يصل وتركيا والإقليم من بعدهما إلى مرفأٍ أمواجه أقل هياجا.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع