بقلم-جميل مطر
هذا المعنى ليس من عندى. إنه خلاصة بعض ما طرحه تفصيلا ستيف بانون، كبير مستشارى الرئيس دونالد ترامب سابقا خلال مقابلة تليفزيونية جرت فى إيطاليا مع الكاتب والمعلق الأمريكى فاريد زاكاريا. اهتمامى ببانون لم يتوقف منذ ظهر ملازما لدونالد ترامب المرشح لمنصب رئيس الجمهورية، ومنذ أن اكتشفت أنه يمول ويحرر دورية إلكترونية شهيرة تبشر بأفكار قومية متطرفة. توقعت أن إقامته بالبيت الأبيض لا يمكن أن تطول، فالصدام بينه وبين ممثلى ما يسمى بالدولة العميقة فى واشنطن واقع لا محالة. بانون مثل كل المنظِّرين والمبدعين يحض صانعى السياسة على القفز فوق مراحل بينما عملاء الدولة العميقة وأقرباء فى العائلة يسعون لإقصائه عن مواقع القرار وعن رئيس الدولة. أحسنت التوقع. أقصوا الرجل عن البيت الأبيض وحرصوا على تقليل فرص لقائه بالرئيس. طاردوه وأساءوا معاملته وشوهوا سمعته وبقى الرجل مدافعا بإصرار وقوة عن سياسات ترامب. لم يتخل عن تأييده لشعار أمريكا أولا وشعار استعادة عظمة أمريكا وقرارات تقييد الهجرة ووقفها تماما فى وجه نوعيات وجنسيات معينة. ظل صامدا فى دعمه قرار بناء جدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك وقرار الانسحاب من اتفاقية المناخ وقرارات تخفيض الضرائب على الأغنياء وزيادة التعريفة الجمركية على واردات بعينها.
***
لم يفاجئنى سفر زاكاريا إلى إيطاليا للالتقاء بستيف بانون. أخمن، باعتبارى متابعا منضبطا لمعظم أنشطة المعلق الأمريكى، أنه لم يترك بانون يغيب عن بصره طيلة الشهور التى أعقبت خروجه من البيت الأبيض. قال أصدقاء إن السيد زاكاريا سافر إلى إيطاليا؛ لأنه هناك وقع حدث جلل وهو قرار الرئيس الإيطالى دعوة قادة حزب يمينى متطرف وقادة حزب يسارى متطرف لتشكيل ائتلاف غير عادى يتولى حكم البلاد. قلت لأصدقائى: أحترم رأيكم فله وجاهته ولكنى أختلف معه. صحيح أن انتخابات إيطاليا أثمرت تطورا خطيرا، أو هى كشفت عن عمق استهانة الناخب الإيطالى بقياداته السياسية التقليدية ورغبته فى التجديد. ولكن الصحيح أيضا أن الناخب الإيطالى اشتهر وانفرد بين ناخبى أوروبا بالمواطن «الملول». الإيطالى يزهق بسرعة لا يجاريه فيها أوروبى آخر من حكومة تتجاوز عامها الأول. هو الآن، وهذا أيضا صحيح، ومعه كثيرون من مواطنى أوروبا، غير راضين عن الطبقة السياسية بأسرها وبخاصة عن سياساتها المتعلقة بالهجرة.
أظن أن المعلق الأمريكى سافر إلى إيطاليا لا ليحضر بنفسه هذا التطور السياسى الغريب ويشهد أول انتصار ساحق للتيارات الشعبوية الأوروبية على أيدى حركة النجوم الخمسة اليسارية وحركة الجامعة الشمالية اليمينية، بل ذهب إلى هناك ليتعرف على أسباب وجود ستيف بانون فى إيطاليا فى هذه اللحظة التاريخية. المعروف لصحفى أمريكى مرموق أن ستيف بانون كان بالمصادفة أو بغيرها قريبا جدا من قلب السياسة فى فرنسا، عندما جرت انتخابات الرئاسة التى اشتركت فيها السيدة لوبان زعيمة الجبهة الوطنية، وهو الحزب الذى حاز على شرف أن يكون نموذجا للشعبوية الأوروبية الجديدة. كان أيضا على ما أذكر مشاركا ومدافعا عن قيادات معينة فى حزب العمال البريطانى وعن حركة القوميين الجدد التى تقف على يمين الحياة السياسية فى المملكة المتحدة. كان موجودا فى ألمانيا عندما جرت الانتخابات الألمانية التى كشفت عن عجز حقيقى أصاب الأحزاب السياسية التقليدية، وهى الانتخابات التى أفرزت حكومة ألمانية ضعيفة نسبيا، وأضافت زيادة محسوسة فى تمثيل حركة البدائل القومية، وهى أحد أهم التيارت الشعبوية فى القارة الأوروبية. كان بانون هناك فى كل هذه البلاد وغيرها من دول شرق ووسط أوروبا وكنا نتابعه وهو يشد أزر قيادات الحركات الشعبوية، يلقى المحاضرات ويعقد اللقاءات وينظم المؤتمرات وينصح ويشير ويوصى.
***
يقول بانون منتشيا بفرحة النصر ما معناه إن الحركة الشعبوية العالمية التى انطلقت نذرها، أو بشائرها، من أمريكا والعالم الغربى بصفة عامة فى غمار تطورات الأزمة المالية العالمية فى سبتمبر 2008 حققت فى إيطاليا هذا الأسبوع أهم انتصار لها. ما حدث فى إيطاليا هو البيان رقم واحد للثورة الشعبوية العالمية. إيطاليا، الدولة المؤسسة مع خمس دول أخرى للسوق المشتركة والدولة ذات الموقع الرابع فى الاقتصاد العالمى وصاحبة درجة عالية فى معدلات النمو داخل أوروبا، هى الآن وبفضل انتخاباتها البرلمانية الأخيرة ووصول الحركتين الشعبويتين اليمينية واليسارية إلى قمة السلطة، الدليل المؤكد فى نظر المذهب الشعبوى العالمى الذى يقوده الرئيس ترامب على سلامة الأهداف وحسن الأداء. الترامبوية، فى رأى منظرى الشعبوية العالمية، انتصرت خارج أمريكا وانتصاراتها فى الداخل مستمرة والإصرار على تحقيق نصرها النهائى فى الداخل لا يتزعزع.
***
لا يقلل ستيف بانون من أهمية حال الاستقطاب الداخلى فى الولايات المتحدة. هذا الاستقطاب الحاد سوف تتزايد حدته، وهو الدليل الأقوى على أن الترامبوية تسير بخطى ثابتة ومستقرة نحو تحقيق أهداف الثورة الأمريكية الجديدة. الرجل جازم فى هذا الاعتقاد إلى الحد الذى يجعله يعتبر الاستقطاب الحاد فى إيطاليا الذى سبق إجراء الانتخابات هو العنصر الحاسم الذى جمع الشعبويين الإيطاليين المتناقضين أيديولوجيا على التوحد سياسيا، فشكلوا حكومة جمعت اليسار الإيطالى العتيد واليمين الإيطالى الراسخ فى جبهة واحدة. هذه الجبهة هى الوحيدة القادرة فى نظر ستيف بانون على حل مشكلتى الهجرة الأجنبية والعلاقة مع المفوضية الأوروبية وأزمات الاقتصاد الإيطالى. ما كان ممكنا، وفقا لفهم بانون، الوصول إلى هذا النصر المبين للقوى الشعبوية الإيطالية لو لم يتعمق الاستقطاب السياسى والاجتماعى فى إيطاليا.
***
لم يقصر الرئيس ترامب منذ اليوم الأول له فى الحكم فى دعم الحركات الشعبوية الأوروبية. يبدو لنا واضحا الآن أن رجاله لم يقصروا من جانبهم فى الاستمرار فى تقديم الدعم لها على مستويات أخرى غير المستوى الرسمى الذى كان سببا فى إحراج البيت الأبيض أكثر من مرة. أتصور، مستندا إلى تلميحات صدرت عن ستيف بانون، أن جماعة أو فلنقل حركة ترامب تعتقد عن صدق واقتناع أن الانتخابات التشريعية القادمة ستكون بمثابة قفزة واسعة نحو تثبيت دعائم الحركة فى الولايات المتحدة. يتوقعون أن يكون التصويت فى نوفمبر القادم على ترامب أساسا وليس على مرشحين أو أحزاب، بمعنى أن الناخب سوف يدلى بصوته اعتمادا على موقف المرشح من ترامب من ناحية وبيرنارد ساندرز من ناحية أخرى. يأملون فى أن تتكرر التجربة الإيطالية فى الولايات المتحدة فيأتى الحل للاستقطاب الأمريكى المتصاعد عن طريق الخروج بجبهة حكم يشترك فيها اليمين الأمريكى الذى يقوده ترامب واليسار الأمريكى الذى يقوده ساندرز. هذه الجبهة المناهضة للطبقة السياسية التقليدية ولقادة الحزبين فى الكونجرس وللقوى المهيمنة على وسائط الإعلام مثل المصارف وعمالقة المال فى حى الوول ستريت، قادرة على قيادة ثورة أمريكية ثانية تسقط نظاما باليا وتقيم محله نظاما شعبويا يعيد لأمريكا عظمتها ويتعامل مع مشكلة اللا مساواة المتفاقمة.
***
لا شك فى أن متابعة هذا النمط من التفكير ثم مسايرة إن احتاج الأمر سوف يتطلب جهدا خارقا أظن أن أتباع ترامب والمتعاطفين مع سياساته والمستفيدين منها لن يبخلوا به. هل يمكن حقا أن تقوم فى واشنطن حكومة ائتلافية، تيار فيها يمثل القوميين البيض من نوع ترامب وعائلته وحاشيته والعمال المهددين فى أرزاقهم والجماعات الإنجيلية المتطرفة، والتيار الآخر المشارك فى الجبهة ويمثل الأقليات الملونة والمطحونة وعائلات المهاجرين من آسيا وبخاصة من شبه جزيرة الهند وجنوب شرق آسيا والصين والشرق الأوسط، التياران أحدهما بقيادة ترامب والآخر بقيادة ساندرز يستطيعان بمقايضة مصالح أتباعهما تحقيق مجتمع الرخاء والسلام الاجتماعى.
***
يخطئ من يعتقد أن دونالد ترامب ظاهرة عابرة.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع