بقلم - جميل مطر
شاهدت الرئيس دونالد ترامب يخطب فى دافوس حيث تنعقد سنويا قمة المال والأعمال والسياسة. كاد الرئيس الأمريكى يكون شخصا آخر غير الذى عرفناه على امتداد سنة كاملة. اختلفت لغة جسده فبدا وقورا فى استخدام ذراعيه ويديه وعينيه وفمه، واختلفت لغة الخطاب فبدا فى كثير من رسائله ملتزما ومترابطا وقابلا للتصديق. كتبه وحرره لا شك مستشاروه وراجعه وزيرا الخارجية والدفاع. كانت مرة من مرات قليلة لم يصدر فيها عن أى منهما تصريح أو تغريدة تعدل فى خطاب أو تغريدة صدرت عن رئيس الدولة واستدعت تدخلا سريعا.
***
حصل الخطاب على ثناء الكثيرين. كان هناك فى الغالب من أراد أن يستمع إلى خطاب من الرئيس الأمريكى يكشف عن حقيقة ما يفكر فيه الرئيس. يريدون خطابا خاما لم تدخل عليه تعديلات وتصحيحات لأنهم تعودوا خلال العام على أنه يقول ويفعل. يبعث بتغريدات تحمل معلومات ومواقف بعيدة عن الحقيقة وفى أكثر الأحوال غارقة فى المبالغة المتعمدة أو لعلها تصدر عن منطقة تقع خارج وعى الرئيس. تتحول هذه المواقف بمرور الوقت وبالتكرار المتعمد إلى أوامر رئاسية، أو ترسخ فى أذهان المتلقين لها. تحدث الرئيس ترامب كثيرا جدا عن ضرورة تغيير سياسة الضرائب فى أمريكا بهدف تخفيضها على الطبقة الأعلى فى المجتمع، وبهدف جانبى وهو حفز الاستثمارات الأجنبية على دخول أمريكا ودفع الاستثمارات الأمريكية فى الخارج للعودة إلى الاستثمار فى الوطن. تحدث كثيرا وبالغ كثيرا أو كذب كثيرا وفى النهاية حصل على موافقة يتيمة من الكونجرس. صدر التشريع فتلقفه الرئيس وطار به إلى دافوس ليتحول المؤتمر الاقتصادى إلى حفل بهيج. لأول مرة يستقبل مؤتمر دولى الرئيس دونالد ترامب استقبال الفاتحين العظام.
***
كذب الرئيس وكذب ثم كذب حتى صدق. الرئيس لم يتغير وإنما يتغير الآخرون الذين يسمعونه ويشاهدونه ويتعاملون معه. الرجل لم يغير موقفا واحدا التزم به فى الحملة الانتخابية. التزم تجاه العامل الأبيض الذى فصل من وظيفته وضاقت به سبل كسب العيش تحت ضغط مسيرة العولمة، المسيرة التى طحنت أفرادا وفئات وطبقات وأينعت مهارات جديدة وتكنولوجيات مبهرة وجيوشا من الروبوتات جاهزة لتولى معظم مسئوليات الإنتاج والخدمات والنقل والتعليم. التزم تجاه الأغنياء جدا أن يرفع عن كاهلهم هم الضرائب فيستثمرون أكثر ليشتغل العمال البيض أولا ثم غيرهم فيما بعد. التزم تجاه نفسه وهذه الأقلية البيضاء أنه لن يتعاطف يوما مع ملون من أصول هسبانية أو إفريقية. التزم ونفذ. لم يخف يوما عدم احترامه للمرأة وقد بادلته النساء هذه المشاعر ولم يجرِّب استرضاءهن، حتى الآن على الأقل.
***
الرئيس المتهم والمدان فعليا بالكذب هو نفسه الرئيس الذى لا يثق بأحد ويتهم الآخرين بالكذب. هؤلاء الآخرون منهم السياسيون الذين تولوا شئون البلاد تحت قيادة باراك أوباما وآل كلينتون والسياسيون من الأحزاب حتى بعض أعضاء الحزب الجمهورى والمثقفين، منهم أيضا أو على رأسهم الإعلاميون يتقدمهم الصحفيون. كلهم فى نظره يكذبون. كل ما يكتب فى الصحف أو تنطق به الإذاعات والقنوات الفضائية باستثناء قناة فوكس أنباء كاذبة حسب رأيه. إذا انتقدوه فهم الكاذبون. هم لا يشيدون بحجم الناس الذين خرجوا إلى الساحات يوم تتويجه، ولا يحتفون بعدد التشريعات التى أقرها والقرارات التى أصدرها فى مجالات الهجرة والمعادية لمسلمين وافدين من بلاد معينة ولاجئين ومهاجرين من أمريكا الجنوبية، هم فى رأيه يكذبون عندما يلتزمون الصمت. أما فهو فلا يرى فى كل ما فعله ويفعله إلا كل بديع ورائع ولا مثيل له فى تاريخ الإنسانية ولا سابقة له فى عهد من عهود أمريكا. كذب فى لباس المبالغة والتهويل.
***
أمريكا تصدرت قائمة الدول الحائزة على رصيد مرتفع من القوة الناعمة. أقول تصدرت فى الماضى لأننى غير واثق تماما من موقعها الحقيقى والراهن على مقياس هذه الدول. كانت القوة الأعظم بحكم مقاييس أخرى فى الوقت نفسه ليس أقلها شأنا مقياس القوة الصلبة. لدى ثقة، مستندة إلى دراسات وتقارير أمريكية وأوروبية، فى أن أمريكا لا تزال فى مقدمة الدول التى تمتلك أضخم ترسانة عسكرية فى العالم وتحتفظ بـأسرار كثير من نواحى التقدم التكنولوجى فى شئون التسلح وبخاصة أسلحة الدمار الشامل. فى الوقت نفسه لدى انطباع بأن أمريكا فقدت، أو ربما تفقد الآن، موقعها فى صدارة القوى الدولية المحتفظة لسنوات عديدة برصيد عال من القوة الناعمة. احتلت هذا الموقع بفضل أولا سمعة الحلم الأمريكى، وثانيا بفضل نظامها الديموقراطى، وثالثا بفضل أداء مؤسساتها الإعلامية والنماذج المشرفة لإعلاميين وناشرين كبار، ورابعا بفضل الشعبية الهائلة التى تمتعت بها السينما الأمريكية على مر العقود. لا أقول كل هذا تغير ولكنى أقول كله يتغير.
***
جوزيف ناى، أستاذ العلوم السياسية الذى ينسب إليه صياغة تعبير القوة الناعمة ودورها فى إدارة العلاقات الدولية، منزعج. كان ناى يقول منذ عقد التسعينيات أن القوة الناعمة وحدها لا تكفى لتحقيق التأثير المطلوب فى دول أخرى مستهدفة، هى دائما فى حاجة إلى قوة صلبة تساندها، أى إلى أدوات أقل نعومة. وصف القوة الناعمة بأنها «القدرة على التأثير فى الآخرين بالاقناع أو بالاستلطاف والانبهار وليس بالعنف أو بالإغراء المادى». وفى وصفه للقوة الصلبة أشار إلى تمويل النشاط المتطرف دينيا أو سياسيا فى دولة مستهدفة وإلى القوة العسكرية بطبيعة الحال كأدوات أساسية للقوة الصلبة تستخدمها الدول للتأثير فى سياسات وتوجهات الدول الأخرى. كان اجتماع القوتين الناعمة والصلبة فى سويسرا نموذجا لقدرة دولة صغيرة نسبيا على حماية نفسها فى أعتى الظروف. كذلك كان اجتماعهما فى الحالة الأمريكية نموذجا لقدرة دولة على فرض زعامتها وقيادتها على العالم وتحقيق انتصار الرأسمالية على الشيوعية. ولكن، هنا يكمن سبب انزعاج جوزيف ناى، أو على الأقل ما فسرته من جانبى انزعاجا، يتساءل ناى كما تساءلت وأتساءل، لماذا كل هذه الضجة حول استخدام ظاهرة الأنباء الكاذبة فى شكل حملات تخريبية ضد دول مستهدفة كقوة مضافة إلى القوتين الصلبة والناعمة، بمعنى آخر ناى منزعج من عواقب الاعتماد على مصادر قوة جديدة وهو الذى بشر وأوصى بأن اجتماع القوتين بنسب معقولة كافٍ وحده للتأثير فى دول أخرى.
***
لو صح ما يدعيه خصوم الرئيس ترامب وقطاع واسع جدا من الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين من أن روسيا أثرت بدرجة، غير ممكن التحقق تماما منها، فى سير حملة انتخاب رئيس جديد لأمريكا فى عام 2016، فإن أعدادا متزايدة من الأكاديميين والسياسيين فى كل أنحاء العالم سوف تعتنق فكرة الاعتماد على مصادر قوة ثالثة غير القوتين الناعمة والصلبة للتأثير فى دول أخرى. هذه القوة الثالثة يصفها كريستوفر ووكر وجيسيكا لودويج الباحثان بمنحة الديموقراطية فى تقرير مطول نشرت خلاصته قبل أيام بأنها «الاستخدام الخادع للمعلومات والأنباء لتحقيق أغراض عدوانية» وأطلقا عليها جريا على سابقة جوزيف ناى «القوة الحادة Sharp Power». بمعنى آخر أصبح هناك ثلاثة مكونات لقوة الدولة الكلية، القوة الناعمة والقوة الصلبة والقوة الحادة. يعترف الكاتبان فى تقريرهما بأنها ليست جديدة فقد استخدمها الروس فى الحرب الباردة عندما زعموا فى خبر كاذب نشرته صحيفة هندية أن المختبرات البحثية العسكرية فى أمريكا تسببت فى خلق ونشر فيروس نقص المناعة. هؤلاء الروس أنفسهم عادوا فى سنة 2016 يتهمون فى رسائل إلكترونية مزورة المرشحة هيلارى كلينتون بالتستر على تحرش جنسى تعرضت له متطوعة فى حملتها. وفى أستراليا، كان هناك إعجاب بالصين وإنجازاتها وتفوقها التكنولوجى، أى بقوتها الناعمة، إلى أن ثبت للحكومة والرأى العام استخدامها «القوة الحادة» ضد أهداف داخلية فى أستراليا.
واقع الأمر أن هذه القوة الحادة ليست أكثر من قوة صلبة استخدمها الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور. وإلا بماذا نفسر الإذاعات الموجهة للشعب الألمانى والشعوب الواقعة تحت الاحتلال النازى، والتى كانت تستهدف استقرار هذه المجتمعات ومعنويات المحاربين، وبماذا فسر حملات محطة الشرق الأدنى البريطانية وجهودها لإثارة السخط فى الشارع المصرى ضد حكومة الثورة قبل حرب السويس. بل وماذا نطلق على نصائح الكلاسيكيين من المفكرين وفلاسفة السياسة والدبلوماسية فى الهند والصين وفلورنسا الذين أوصوا بإرسال رسائل إلى دول الجوار تخرب علاقة الحاكم بالمحكومين. هذه الأمثلة وغيرها تعنى أننا لسنا أمام ظاهرة جديدة. الكذب موجود فى السياسة بل لعله وجهها الآخر، وكل الكيانات السياسية تحاول تسريب أنباء ومعلومات مزيفة تهز بها الاستقرار فى دول وكيانات أخرى مستهدفة.
***
جوزيف ناى له حق فى انزعاجه. فالقوة الناعمة تتحول إلى قوة حادة لو استخدمت الخداع. وهو ما يحدث بوفرة هذه الأيام فى السياحة كما فى الإعلام. يجرى التلاعب فى مصائر الأمم وقيمها وتراثها كما يجرى خداع الشعوب بتقديم نسخ مزورة من سرديات أسست للقوة الناعمة فى بلاد مثل مصر والهند. يحذر ناى الدول التى تستهدفها حملات الرسائل والمعلومات المزيفة ونصيحته التى أتبناها أو على الأقل أثنى عليها «ألا تنساقوا وراء إغراء الدفاع عن النفس بتقليد هذه الحملات وشن حملات مضادة». الخاسر فى النهاية هو قوتكم الناعمة.
نقلا عن الشروق القاهرية