بقلم:جميل مطر
منعت نفسى عن الكتابة. تفاديت توريط نفسى مع فكرة لا أفيها وأنا صاحبها حقها من الحب أو الرعاية. لاحظت أن ظروفا هبت علينا باعدت بيننا وبين كل من نحب وبيننا وكل ما نرغب فيه أو نحن إليه. لاحظت أيضا أن ظروفا أخرى أو لعلها الظروف نفسها سمحت لغير الحب بأن يحتل فى حياتنا أولوية لا يستحقها. سربته الظروف تسريبا بالخديعة والغش أو فرضته بقوة القهر والظلم. كنت مثل كثيرين ممن يقدسون الكلمة بكل حروفها. كنا نقضى مع كلماتنا ما تستحق من وقت قبل أن نسلمها لمن يرتبها بين غيرها من الكلمات وينمقها ويزوق حواشيها لتصل إلى القارئ آمنة وأمينة. تصل آمنة لأن ما ائتمنتنا عليه من حروف لن يتوه فى دهاليز عتمات لا يفرق الناظر فيها بين حرف وآخر، وتصل أمينة لا تتبدل فى طريقها من نية صادقة إلى نية أخرى حتى وإن كانت عند صاحبها صادقة، طريق ملبدة بما لم نكن نعلم عن مخاطرها الكثير، أو كنا نعلم واستهنا.
***
قالت لى، أنت تكتب ونحن نقرأ. دعنا مرة واحدة نحكم معك على الأشياء ونقرر. بالله عليك لا تنفرد بكل الحقوق، الحق فى أن تختار ما تكتب والحق فى الحكم على ما تكتب. يا صديقى أنا شريكتك شئت أم أبيت، واعترفت أم أنكرت. أنا لا أشاركك اختيار ما تكتب، أو هكذا تظن. أشاركك أحيانا فى الاختيار وأنا غائبة وأحيانا وأنا خائفة وأحيانا وأنا مرتبكة أو ضائعة أو نادمة. أشاركك وفى أحيان وربما فى معظمها أنت لا تعلم. من هيأ لك يا صاحبى أنك حر تكتب أو لا تكتب. متى خطرت على بالك فكرة أن تتوقف فلا تكتب، بالك هذا الذى أعرفه لا يهدأ إن ابتعدت عنه الكلمة. لا لست أنت. لا تبخل بالحقيقة على من استودعك مغارة وحيه وأسراره. هل انفرد بك من نمق لك وجمل فكرة أن تتوقف عن الكتابة، ولو لبرهة؟ لا لست أنت.
***
صديقتى، تذكرين، ولا شك، يوم تناولنا بعض غذاء جئت به معك من بيتك ومطبخك. سألتينى قبل المغادرة عن كيف وجدت مذاق ما أكلت (كنت حريصة على تأكيد أن كله «من عمايل ايديا وحياة عينايا»). سؤال تسأله كل مضيفة حاولت أن تبدع فى طهى ما ابتكرت أو قلدت. للوهلة الأولى خلت أنى فطنت إلى نبرة استنكار سبقت السؤال تنبهنى إلى أننى لم أهنئك فور الانتهاء من تناول الطعام على رقى ذوقك فى اختيار وإعداد أصناف الغذاء وحسن توزيع البهارات والتفوق فى ابتكار صنف جديد.
لم أخجل واعتذرت. أما أنت فأحسنت حين عجلت بالدعوة إلى ضرورة التأكد من سلامتى من أعراض أخرى خاصة وأن فقدان حاسة التذوق، كما تفضلت يومها، عرض هام من أعراض الوباء المنتشر بعدوانية رهيبة. رأيت الرعب يطل من عينيك. رأيت أيضا مع الرعب فى العينين يدا تمتد لتمسك بكتفى فى إشارة تحدٍ وعزيمة لن تلين.
***
أشكرك. كان التنبيه ضروريا. كذلك كان قرار الانعزال لكى لا أؤذى ولا أضيف إلى أذاى إن كان قد لحق بى أو بك أذى. مرت أيام كل يوم منها حمل درسا أو أكثر من درس. أحد الأيام حمل الدرس بأن علوم الطب ما زالت قاصرة تتثاءب بينما كانت تتقدم قفزا وصخبا علوم القتل والتدمير والقمع. يوم آخر حمل الدرس بأن أخلاقيات رجال السياسة لم تتغير منذ قررت طبقة قبل آلاف السنين أن تحكم ورضيت طبقة أو أكثر بأن تترك رقاب أبنائها وبناتها تحت رحمة مختلف الركب القاسمة. يوم ثالث نقل رسالة من حضارة توشك أن تغيب. أما الرسالة فنصها الآتى «يا كبار السن، لا مساحة فى حضارتنا ليعيش بيننا، فى بيوتنا الحديثة ولكن الضيقة، من يتقدم به العمر، لا مساحة ولا فائض غذاء، والجديد أننا، أبناءً كنا أم أحفادًا، اكتشفنا أنه لا توجد لديكم أيها الآباء والأجداد مناعة تقاومون بها فيروسات تهب علينا بين الحين والآخر، أنتم على العكس هدفا وفريسة تشجع الفيروسات والأوبئة على شن العدوان على مجتمعاتنا الباحثة عن سعادة ورخاء. لعلمكم، حضارتنا «الغربية» ليست كحضارة آسيا تحتفظ بكبار السن وتحافظ عليهم، حضارتنا تعزلهم لتستمر».
***
قرأت وكتبت. لم أفهم ما قرأت ولم أرض عما كتبت. فقدت لأيام معدودة عدة حواس منها بالتأكيد حاستى الشم والتذوق. ما لم أدركه رغم ما تحصلت عليه من علم ومعرفة هو كيف أفقد حاسة تذوق ما أقرأ وأكتب. لم أسمع عن علاقة تربط من بعيد أو قريب حاستى الشم والتذوق بحاسة أو حواس الفهم والاستمتاع بالكتابة والقراءة. لم يبلغنى من ملاك الكتابة إنذار بالتوقف بعد حين أو أحيان. صحيح أيضا أن ملاكى، شريكى فى أغلب مغامراتى ورحلاتى وأمسياتى، لم يعد يربت على ظهرى مشجعا ومحفزا كعادته بعد كل مقال كتبت منذ التقينا قبل أكثر من ستين عاما.
عد يا ملاكى. عد إلى موقعك على كتفى تهفهف منه فيبتعد منزعجا وخائر القوة الفيروس خائب الرجا. فيروس لا يقرأ ولا يكتب. يكره الحرف ويخاف منه، فيروس اختار فى خصومه حاسة تذوقهم ما يكتبون وتعلقهم المجنون بالحرف والكلمة.
صديقتى، لن أخذلك. لا بد أن أعود.