توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نهاية الأمازون

  مصر اليوم -

نهاية الأمازون

بقلم : جميل مطر

فى البرازيل، الدولة ذات الاقتصاد الأكبر فى أمريكا اللاتينية، فاز بمنصب رئيس الجمهورية فى انتخابات حرة وبدعم من كبار رجال الأعمال وملاك الأراضى والمؤسسة العسكرية ــ مرشح يدعو لإقامة حكومة نظيفة، حكومة تخضع فى تصرفاتها للقانون والنظام. يضع نفسه فى مصاف الأبطال العسكريين بحكم أنه خدم فى شبابه كضابط بالقوات المسلحة. عاش حياته السياسية كمستشار فى بلديات ونائبا فى الكونجرس يدعو لعودة العسكريين إلى الحكم كحل للفساد المستشرى فى البلاد. 
يرحب الرئيس الجديد بتدخل الدين فى السياسة. يرفض تعبير الدولة العلمانية ويدعو كل الرافضين لهذا الموقف إلى مغادرة البلاد. صرح مرارا أنه لن يسمح بزواج المثليين. اشتهر بمواقفه وبرامجه العنصرية حتى إن نقابة المحامين فرضت عليه كعضو فيها عقوبات بسبب عنصريته وكراهيته للبرازيليين السود والمنحدرين عن السكان الأصليين. يحسبون له أو عليه كراهيته للنساء، أو ربما خوفه منهن، حتى أنه صرخ فى وجه زميلة له فى الكونجرس قائلا: «لن أغتصبك فأنت لا تستحقين»، وسب صحفية تغطى أعمال الهيئة التشريعية بأنها عاهرة. لا يخفى كرهه للفلاحين وأجراء الأرض الزراعية والمهاجرين منهم إلى المدن ويعتبرهم إرهابيين. دائم الثناء على رجال الشرطة والإشادة بهم حتى أنه وعد بأن يبدأ عهده بتوزيع ميداليات ونياشين عليهم وتحسين أحوالهم ومدهم بكل ما يحتاجون إليه من أسلحة متقدمة. يعلن هذا فى بلد اشتهر بأنه الأعلى فى العالم فى ضحايا عنف الشرطة، وفى البلد الذى جرب اصطياد أطفال الشوارع بالرصاص الحى أو خلال نومهم فى الأزقة وعلى الأرصفة. الرئيس الجديد لا يخفى نواياه فهو القائل بأن خصومه الحمر أعضاء النقابات العمالية يجب أن يطردوا من البلاد.
يصف الرئيس الجديد المجتمع البرازيلى بأنه ينقسم إلى جماعتين متنافرتين ومتخاصمتين، جماعة النخب وجماعة الأهالى أو الناس. هذا الوصف دفع باحثين مرموقين فى جامعة هارفارد الأمريكية إلى القول بأنه لو كان هناك بالسياسيين البرازيليين من يرددون بكثرة وعن اقتناع هذا الوصف فستكون الديمقراطية فى البرازيل قد أوشكت على نهايتها، فالعبارة تعنى فى حقيقة الأمر نهاية التسامح المتبادل فى مجتمع يسعى لينهض.
***
يكتشف المتابع للانتخابات البرازيلية صورا وأنماطا تكاد تكون صورا طبق الأصل لسلوكيات مارسها ويمارسها سكان الولايات المتحدة وسياسيوها. بمعنى آخر تبدو الأمركة ومقاومتها عملية مستمرة كما كانت طوال القرن الماضى. أضرب أمثلة حية لمسناها خلال مراقبتنا للتطورات السياسية الأخيرة فى البرازيل، بما فيها المرحلة الانتخابية وآثارها المباشرة. 
أولا: كان واضحا أن فرعا مهما من الإنجيلية الأمريكية كطائفة أو مذهب دينى سياسى هيمنت بالفعل على شكل وتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية فى البرازيل. هيمنت بكل سلبياتها وإيجابياتها المعروفة. لاحظنا ــ أول ما لاحظنا ــ انحسار الدور الاجتماعى المهم جدا للكنيسة البرازيلية العتيقة، ولعل أهم مظاهره زيادة معدلات الجريمة وتصاعد صعوبات التفاهم وتسوية النزاعات المحلية والهروب من التعليم فى المراحل المبكرة وبدايات تفسخ المجتمع المدنى، وقد كانت أنشط المجتمعات المدنية فى أمريكا الجنوبية. للكنيسة دور هام فى تاريخ البرازيل وبخاصة فى مقاومة الاستبداد وحمايتها، ونهاية هذا الدور أو تفريغه لصالح هيمنة القيادات الإنجيلية البالغة الثراء والداعمة للاستبداد والتابعة أيديولوجيا لأفكار أمريكية سوف يكون له أثر على السياسة فى البرازيل وربما فى كل أمريكا الجنوبية. لاحظ مثلا أن الطائفة أجبرت الرئيس الجديد على إعلان التزامه نقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس أسوة بما التزم به الرئيس ترامب للطائفة فى الولايات المتحدة ونفذه بالفعل. 
ثانيا: للشعبوية جذور راسخة فى الثقافة الأيبيرية ومشتقاتها فى أمريكا اللاتينية. لعبت دورا مهما فى حركات التحرير ضد الاستعمار، وأدوارا أخرى خلال عمليات التحديث ومواجهة صعوباته. كانت ايفا وخوان بيرون ويظلان من أهم رموز الشعبوية الجديدة فى القرن العشرين التى أثرت تأثيرا حاسما فى مسيرة الأرجنتين السياسية وفى علاقات المؤسسة العسكرية فى أمريكا اللاتينية بجميع مؤسسات وأحزاب النهضة الديمقراطية فى القارة. والمثال الأحدث هو حركة ونظام هوجو شافيز فى فنزويلا وكذلك نظام أورتيجا فى نيكاراجوا. يبدو لنا، ولو مستبقين الأحداث، أن جاير بولسنارو الرئيس الجديد للبرازيل قد وضع الأسس اللازمة لإقامة نظام شعبوى على نمط أسلوب الرئيس ترامب فى إدارة دفة الحكم فى الولايات المتحدة. قد لا يدرك الرئيس البرازيلى، أو لعله يدرك، أن الديمقراطية البرازيلية تختلف عن الديمقراطية الأمريكية فى أنها لا تزال غضة ولن تتحمل ما تحملته وتتحمله الديمقراطية الأمريكية من ضغوط الرئيس ترامب على الدستور الأمريكى وضد معارضيه فى الحزب الديمقراطى وتجاوزه الأساليب التقليدية فى التخاطب مع الرأى العام ومواقفه المعادية للأقليات والمهاجرين والملونين واستهانته بدور النساء فى الحياة العامة. 
نتوقع، استنادا لتجربة الانتخابات، أن يكون الصدام الأول للرئيس البرازيلى مع الميديا بجميع أنواعها، ومع الصحافة التقليدية بوجه خاص. لقد حفلت أجهزة الميديا خلال الانتخابات بجميع أشكال الأنباء المزيفة التى شارك فى صنعها ودعمها القوى الداعمة للمرشح بولسنارو كجمعيات رجال الأعمال، وكذلك القوى السارية المساندة للمرشح العمالى السنيور حداد عمدة مدينة سان باولو. هكذا فقدت الصحافة والميديا عموما بعض ما كان لها من احترام لدى الرأى العام. بكلمات أخرى هكذا تفقد الديموقراطية واحدة من أهم قلاعها، الخطر الذى يهدد الآن الديموقراطية الأمريكية ويهدد أكثر الديمقراطيات الجديدة فى شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
ثالثا: اليمينية الجديدة. ليس كل اليمين متخلفا بالضرورة أو بحكم التعريف كما يدعى كثيرون من خصوم اليمين. ولكنى أزعم أن وراء كثير من الحركات الشعبوية الجديدة فى الغرب وبخاصة فى أوروبا وأمريكا اللاتينية يمينا شديد التعصب، أى شديد التخلف. الأمثلة كثيرة أبرزها حملة بولسنارو الانتخابية ضد أنصار المحافظة على البيئة والتزامه ألا تضم حكومته وزيرا أو وزارة لشئون البيئة. يمكن لهذا الالتزام وللحملة المتوحشة ضد البيئة أن يمرا باهتمام قليل فى دول عديدة، لكن أن يصدرا عن مسئولين فى البرازيل خاصة فأمر خطير. ففى البرازيل يقع الشطر الأكبر من الأمازون ومعروفة حجم الضغوط اليمينية لنزع الغابات وبيع الأراضى المنزوعة منها الأشجار إلى طبقة ملاك الأراضى لتربية العجول واستخراج المعادن وطرد السكان الأصليين وهو الخطر الذى يمكن أن يتنامى متسببا فى عمليات إبادة جماعية للسكان الأصليين وآثار وخيمة على المناخ فى العالم بأسره. لقد وعد السنيور بولسنارو داعميه وممولى حملته بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ أسوة بما فعله السيد دونالد ترامب، دون أن يراعى أن الأمازون يقع فى البرازيل وأن لا أمازون لدى الرئيس ترامب، وأن العالم قد يغفر لترامب موقفه من قضية البيئة ولكنه لن يغفر لرئيس البرازيل استهتاره بالأمازون.
***
فوز بولسنارو بمنصب الرئاسة فى جمهورية البرازيل تطور له أبعاده فى قارة تخرج الآن من مرحلة انتقالية لم تكتمل ولم تنجح تماما. يجب أن نعترف بأن الانتقال نحو الديمقراطية فى الحالتين، حالة أوروبا الشرقية وحالة أمريكا اللاتينية، لم يحقق المرجو منه، أو دعنا نقول إن الشعوب لم تصبر عليه ليكمل مشواره. البرازيل برئاسة رئيس جديد غير مؤمن حقيقة بالقيم الديمقراطية سوف تكون بمثابة آخر امتحان للمرحلة الانتقالية فى أمريكا اللاتينية.

 

نقلًا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية الأمازون نهاية الأمازون



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon