بقلم : جميل مطر
فى البرازيل، الدولة ذات الاقتصاد الأكبر فى أمريكا اللاتينية، فاز بمنصب رئيس الجمهورية فى انتخابات حرة وبدعم من كبار رجال الأعمال وملاك الأراضى والمؤسسة العسكرية ــ مرشح يدعو لإقامة حكومة نظيفة، حكومة تخضع فى تصرفاتها للقانون والنظام. يضع نفسه فى مصاف الأبطال العسكريين بحكم أنه خدم فى شبابه كضابط بالقوات المسلحة. عاش حياته السياسية كمستشار فى بلديات ونائبا فى الكونجرس يدعو لعودة العسكريين إلى الحكم كحل للفساد المستشرى فى البلاد.
يرحب الرئيس الجديد بتدخل الدين فى السياسة. يرفض تعبير الدولة العلمانية ويدعو كل الرافضين لهذا الموقف إلى مغادرة البلاد. صرح مرارا أنه لن يسمح بزواج المثليين. اشتهر بمواقفه وبرامجه العنصرية حتى إن نقابة المحامين فرضت عليه كعضو فيها عقوبات بسبب عنصريته وكراهيته للبرازيليين السود والمنحدرين عن السكان الأصليين. يحسبون له أو عليه كراهيته للنساء، أو ربما خوفه منهن، حتى أنه صرخ فى وجه زميلة له فى الكونجرس قائلا: «لن أغتصبك فأنت لا تستحقين»، وسب صحفية تغطى أعمال الهيئة التشريعية بأنها عاهرة. لا يخفى كرهه للفلاحين وأجراء الأرض الزراعية والمهاجرين منهم إلى المدن ويعتبرهم إرهابيين. دائم الثناء على رجال الشرطة والإشادة بهم حتى أنه وعد بأن يبدأ عهده بتوزيع ميداليات ونياشين عليهم وتحسين أحوالهم ومدهم بكل ما يحتاجون إليه من أسلحة متقدمة. يعلن هذا فى بلد اشتهر بأنه الأعلى فى العالم فى ضحايا عنف الشرطة، وفى البلد الذى جرب اصطياد أطفال الشوارع بالرصاص الحى أو خلال نومهم فى الأزقة وعلى الأرصفة. الرئيس الجديد لا يخفى نواياه فهو القائل بأن خصومه الحمر أعضاء النقابات العمالية يجب أن يطردوا من البلاد.
يصف الرئيس الجديد المجتمع البرازيلى بأنه ينقسم إلى جماعتين متنافرتين ومتخاصمتين، جماعة النخب وجماعة الأهالى أو الناس. هذا الوصف دفع باحثين مرموقين فى جامعة هارفارد الأمريكية إلى القول بأنه لو كان هناك بالسياسيين البرازيليين من يرددون بكثرة وعن اقتناع هذا الوصف فستكون الديمقراطية فى البرازيل قد أوشكت على نهايتها، فالعبارة تعنى فى حقيقة الأمر نهاية التسامح المتبادل فى مجتمع يسعى لينهض.
***
يكتشف المتابع للانتخابات البرازيلية صورا وأنماطا تكاد تكون صورا طبق الأصل لسلوكيات مارسها ويمارسها سكان الولايات المتحدة وسياسيوها. بمعنى آخر تبدو الأمركة ومقاومتها عملية مستمرة كما كانت طوال القرن الماضى. أضرب أمثلة حية لمسناها خلال مراقبتنا للتطورات السياسية الأخيرة فى البرازيل، بما فيها المرحلة الانتخابية وآثارها المباشرة.
أولا: كان واضحا أن فرعا مهما من الإنجيلية الأمريكية كطائفة أو مذهب دينى سياسى هيمنت بالفعل على شكل وتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية فى البرازيل. هيمنت بكل سلبياتها وإيجابياتها المعروفة. لاحظنا ــ أول ما لاحظنا ــ انحسار الدور الاجتماعى المهم جدا للكنيسة البرازيلية العتيقة، ولعل أهم مظاهره زيادة معدلات الجريمة وتصاعد صعوبات التفاهم وتسوية النزاعات المحلية والهروب من التعليم فى المراحل المبكرة وبدايات تفسخ المجتمع المدنى، وقد كانت أنشط المجتمعات المدنية فى أمريكا الجنوبية. للكنيسة دور هام فى تاريخ البرازيل وبخاصة فى مقاومة الاستبداد وحمايتها، ونهاية هذا الدور أو تفريغه لصالح هيمنة القيادات الإنجيلية البالغة الثراء والداعمة للاستبداد والتابعة أيديولوجيا لأفكار أمريكية سوف يكون له أثر على السياسة فى البرازيل وربما فى كل أمريكا الجنوبية. لاحظ مثلا أن الطائفة أجبرت الرئيس الجديد على إعلان التزامه نقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس أسوة بما التزم به الرئيس ترامب للطائفة فى الولايات المتحدة ونفذه بالفعل.
ثانيا: للشعبوية جذور راسخة فى الثقافة الأيبيرية ومشتقاتها فى أمريكا اللاتينية. لعبت دورا مهما فى حركات التحرير ضد الاستعمار، وأدوارا أخرى خلال عمليات التحديث ومواجهة صعوباته. كانت ايفا وخوان بيرون ويظلان من أهم رموز الشعبوية الجديدة فى القرن العشرين التى أثرت تأثيرا حاسما فى مسيرة الأرجنتين السياسية وفى علاقات المؤسسة العسكرية فى أمريكا اللاتينية بجميع مؤسسات وأحزاب النهضة الديمقراطية فى القارة. والمثال الأحدث هو حركة ونظام هوجو شافيز فى فنزويلا وكذلك نظام أورتيجا فى نيكاراجوا. يبدو لنا، ولو مستبقين الأحداث، أن جاير بولسنارو الرئيس الجديد للبرازيل قد وضع الأسس اللازمة لإقامة نظام شعبوى على نمط أسلوب الرئيس ترامب فى إدارة دفة الحكم فى الولايات المتحدة. قد لا يدرك الرئيس البرازيلى، أو لعله يدرك، أن الديمقراطية البرازيلية تختلف عن الديمقراطية الأمريكية فى أنها لا تزال غضة ولن تتحمل ما تحملته وتتحمله الديمقراطية الأمريكية من ضغوط الرئيس ترامب على الدستور الأمريكى وضد معارضيه فى الحزب الديمقراطى وتجاوزه الأساليب التقليدية فى التخاطب مع الرأى العام ومواقفه المعادية للأقليات والمهاجرين والملونين واستهانته بدور النساء فى الحياة العامة.
نتوقع، استنادا لتجربة الانتخابات، أن يكون الصدام الأول للرئيس البرازيلى مع الميديا بجميع أنواعها، ومع الصحافة التقليدية بوجه خاص. لقد حفلت أجهزة الميديا خلال الانتخابات بجميع أشكال الأنباء المزيفة التى شارك فى صنعها ودعمها القوى الداعمة للمرشح بولسنارو كجمعيات رجال الأعمال، وكذلك القوى السارية المساندة للمرشح العمالى السنيور حداد عمدة مدينة سان باولو. هكذا فقدت الصحافة والميديا عموما بعض ما كان لها من احترام لدى الرأى العام. بكلمات أخرى هكذا تفقد الديموقراطية واحدة من أهم قلاعها، الخطر الذى يهدد الآن الديموقراطية الأمريكية ويهدد أكثر الديمقراطيات الجديدة فى شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
ثالثا: اليمينية الجديدة. ليس كل اليمين متخلفا بالضرورة أو بحكم التعريف كما يدعى كثيرون من خصوم اليمين. ولكنى أزعم أن وراء كثير من الحركات الشعبوية الجديدة فى الغرب وبخاصة فى أوروبا وأمريكا اللاتينية يمينا شديد التعصب، أى شديد التخلف. الأمثلة كثيرة أبرزها حملة بولسنارو الانتخابية ضد أنصار المحافظة على البيئة والتزامه ألا تضم حكومته وزيرا أو وزارة لشئون البيئة. يمكن لهذا الالتزام وللحملة المتوحشة ضد البيئة أن يمرا باهتمام قليل فى دول عديدة، لكن أن يصدرا عن مسئولين فى البرازيل خاصة فأمر خطير. ففى البرازيل يقع الشطر الأكبر من الأمازون ومعروفة حجم الضغوط اليمينية لنزع الغابات وبيع الأراضى المنزوعة منها الأشجار إلى طبقة ملاك الأراضى لتربية العجول واستخراج المعادن وطرد السكان الأصليين وهو الخطر الذى يمكن أن يتنامى متسببا فى عمليات إبادة جماعية للسكان الأصليين وآثار وخيمة على المناخ فى العالم بأسره. لقد وعد السنيور بولسنارو داعميه وممولى حملته بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ أسوة بما فعله السيد دونالد ترامب، دون أن يراعى أن الأمازون يقع فى البرازيل وأن لا أمازون لدى الرئيس ترامب، وأن العالم قد يغفر لترامب موقفه من قضية البيئة ولكنه لن يغفر لرئيس البرازيل استهتاره بالأمازون.
***
فوز بولسنارو بمنصب الرئاسة فى جمهورية البرازيل تطور له أبعاده فى قارة تخرج الآن من مرحلة انتقالية لم تكتمل ولم تنجح تماما. يجب أن نعترف بأن الانتقال نحو الديمقراطية فى الحالتين، حالة أوروبا الشرقية وحالة أمريكا اللاتينية، لم يحقق المرجو منه، أو دعنا نقول إن الشعوب لم تصبر عليه ليكمل مشواره. البرازيل برئاسة رئيس جديد غير مؤمن حقيقة بالقيم الديمقراطية سوف تكون بمثابة آخر امتحان للمرحلة الانتقالية فى أمريكا اللاتينية.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع