بقلم:جميل مطر
أحب أسوان. أحب نهرها وشمسها وأحب أهلها. أحب ألوانها الطبيعية الزاهية بدون رياء. أخاف أن يصل إليها زحف التجميليين الجدد خصوم الجمال الطبيعى. أحب هذا الشهر فيها. أتطلع إليه كلما تعقدت مسالك الحياة فى القاهرة وازداد الشوق إلى أسبوع راحة واستجمام. عرفت أسوان صغيرا. قلت لصديق احتل المقعد المجاور لمقعدى فى الحافلة التى نقلتنا من المطار إلى الفندق، أستطيع أن أرسم لك من الذاكرة وأنا مغمض العينين تفاصيل الخزان الذى نمر فوقه الآن وما يحيط به من تلال صخرية. كنت ولا شك أبالغ ولكن ليس كثيرا.
***
دعانى الصديق الجالس إلى جانبى إلى تمضية وقت رحلتنا إلى الفندق فى عقد مقارنات غير سياسية بين ما كان وما نحن فيه الآن. جاء ردى سريعا بالموافقة مضيفا أننى بالفعل أزمعت خلال الإعداد للرحلة أن تكون المقارنات موضوع اهتمام المجموعة على امتداد زمن الرحلة. بعض المقارنات حساسة. «إن شئت نبدأ هنا كتجربة فى حيز ضيق بواحدة هى الأخف وزنا والأكثر وضوحا. لكن رجاء لا تعلق بصوت عال فالصديقات من حولنا آذان صاغية مهيأة لاستقبال كل ما نقول. يا صديقى لا أذكر أننى فى أى مرة قطعت فيها هذا المشوار وأنا طفل فى الابتدائية ومراهق فى الثانوية وجوال فى فريق الكلية ودبلوماسى مرافق لرحلة أجانب أن كان معظم ركاب الحافلة من وزن ثقيل كوزن معظم رفيقات ورفاق هذه الرحلة وكل الرحلات التى شاركت فيها خلال السنوات العشر الأخيرة. هل تعتقد يا صديقى أن مجموعتنا هذه تمثل عينة صحيحة للمجتمع المصرى بوضعه الراهن؟ إذا كان هذا بالفعل ما تعتقده وأشاركك إياه، هل خطر على بالك الثمن الذى يدفعه المجتمع من صحته العامة والتكلفة المادية لعلاج الأمراض الناجمة عن هذه الزيادة «الجمعية»؟. أظن أنك تعرف أن شعبا ثقيل الوزن يعنى مجتمعا اقتصاديا أقل إنتاجية. أضيف هنا خلاصة توصلت إليها فى استطلاع رأى مبسط أجريته قبل أسبوع. توصلت إلى أن هذه الظاهرة، وأقصد الزيادة غير المبررة للوزن، صارت بين الأسباب المباشرة للنفور فى بيت الزوجية. وبالفعل قررت على ضوء هذه النتيجة انتهاز فرصة القيام بهذه الرحلة لإجراء مناقشات هادئة حول تداعيات مسألة الوزن وبخاصة مسئوليته عن جانب من جوانب التوتر السائد فى المجتمع المصرى. أعدك بأن يكون الموضوع على جدول أعمال هذه الرحلة، هذا إن سمحت الظروف وأهمها أن تسود بين أعضاء العنصر النسوى بصفته الغالب فى المجموعة حالة مزاجية مناسبة.
***
قالت: «أعرف أنه يكذب. يزعم فى وجودى أنه سعيد بهذا الحجم وينفى أنه كثيرا ما يعرب عن استيائه من هذا الوضع أمام أصدقائه من الرجال وصديقاته من النساء. أذكر جدا أنه لم يكن يعترض فى البداية حتى أنه كان يشيد أحيانا بالتنوع فى اختيار مواقع الزيادات فى الوزن أو يمتدح زيادة بعينها. حدث هذا قبل أن يستفحل الأمر. ثم راح بالتدريج يبتعد. بدأ يدخل إلى الفراش مبكرا جدا أو متأخرا جدا. لا ندخله معا. أما ساعات اليقظة فكان حريصا على قضائها مع هاتفه الذكى، هذا الهاتف الذى صار يقضى فى صحبته جل وقته المخصص عرفا وربما شرعا لى. دلنى إحساسى الذكى بالفطرة والتجربة معا أنه اختار وزنا مختلفا فى مكان آخر يركن إليه أو يسكن فيه. تسألنى ماذا عساى فاعلة أجيبك على الفور وبدون تردد. أنا أخطأت وسوف أصحح خطئى بنفسى. وزنى يعود إلى سابق عهده وأحسن ولكن من أجلى أنا وليس من أجل زوجى أو سعيا لرضاه. سبقتنى صديقات عديدات وأكثرهن يجبن الآن غمار حياة جديدة كلها إثارة وسعادة يحكون عنها ويتحاكون».
قلت: «ولكنك بما تحلمين أو تفعلين إنما تهددين استقرار مجتمع وعائلات وعلاقات. ألست جزءا من هذا المجتمع». قالت «وأين كان هذا المجتمع عندما كانت المرأة تشكو الظلم والعنف، مجتمع انحاز للرجل ضدها. ثم لماذا يجب أن يتحمل الضعفاء دائما عبء تحقيق الاستقرار وتكلفته الباهظة؟ تحملت المرأة قرونا، صبرت طويلا وكثيرا وأخيرا تمردت، وها هى تقلب الموازين كافة؟».
***
جلسنا، صديقة أخرى وأنا، يفصلنى عنها كأسان من الشاى الأخضر وصحن عميق تفيض من على جوانبه حبات الفول السودانى وصحن آخر زاخر بمتفرقات الحلوى الشامية حملتها معى من القاهرة. بادرتها بطلب السماح إن تكلمت فيما هو خارج المسموح لرجل أن يتكلم فيه. نظرت حولنا لأزداد اطمئنانا على الرغم من أننى اخترت أن نجلس فى موقع فى ركن الشرفة المطلة على حمام السباحة وحدائق الفندق الشاسعة. تعودت أن أجلس فى هذا الموقع. أفضله على كل ما عداه، فالشمس لا تخطئ طريقها إليه والنسمة الناعمة لا تفارقه والنزلاء فى مختلف مواقعهم فى أنحاء الشرفة والحدائق المحيطة بعيدون لا يسمعون. أجابت «مسموح لك دائما الكلام فى كل شىء فقد خبرناك حتى عرفناك. سمعت أنك مهتم بمعرفة إن كان هناك بين الزوج وزوجته خطوط حمر لا يتجاوزها أى منهما خلال أى حوار يجرى بينهما، عاطفيا كان أم عاديا. حضرتك تعرف ما فيه الكفاية عن أخلاقيات الطبقة الوسطى وبعضها كما تعلم يقدس الرياء والخجل. كثير منا يدخل غمار الزواج مزودا بعدد من الأقنعة. لكل حديث قناع ولكل قضية قناع، حتى العاطفة تحتاج لأقنعة متعددة. يا سيدى، فى بيتنا وعلى فراشنا رتبنا أمورنا على أن نتعامل مع العاطفة بالصمت. عشت أخشى، مثل أى فتاة أو امرأة أن يصدر عنى ما يجعلنى محل استفسار وتحقيق وشكوك، كيف ومتى وأين حصلت على هذه المعلومة العاطفية. أخفيت عن الرجل أننى قرأت ذات يوم كتابا أو مقالا محرما على النساء قراءته. تجاسرت ذات مرة وطلبت ما لم تتعود المرأة فى مجتمعنا أن تطلب من زوجها. يومها سقطت جميع الأقنعة وحل بالبيت النكد والخصام. وها أنا امرأة فى بيت يتهاوى لأن زوجها رفض أن يراها على حقيقتها. امرأة خلعت القناع.
***
سألتها: «أما وقد نجحت وحصلت على حقوق حرموك منها قرونا عديدة، هى فى ظنى، عمر البشرية، ماذا تريدين الآن من الرجل. على أى هيئة تتمنينه، وبأى قدر من الذكاء والمسئولية، أتريدين أن تكونى ندا له؟
أجابت: «لا يا سيدى أريد منه أن يسعى ويضاعف الجهد من أجل أن يكون ندا لى».