بقلم:جميل مطر
من منا نقل الفيروس اللعين إلى الآخر؟ سؤال ظل يتردد فى داخل كل منا على مدى أيام وليال، لا أظن أننا توصلنا إلى هوية المذنب الأول، ولن نتوصل، كلنا فى المرض سذج، كيف خطر ببالنا أننا يمكن أن نتعرف بالدقة المتناهية على الطرف أو الشىء الذى تولى مهمة نقل الفيروس، هذا على افتراض أننا عرفنا، وبالدقة المتناهية أيضا، تاريخ وساعة النقل، وهذه تحتاج كما صرنا نفهم إلى تقدير أيضا علمى ودقيق للمدة اللازمة للفيروس ليتأهل لدور جديد مع ضحية جديدة، بطبيعة الحال، لم تتوفر لى، ولا لشركائى فى رحلة اقتفاء آثار الفيروس الذى اتهمناه بالانتساب لنا بالقسر أو بالتحايل وفى كل الأحوال بدون أخذ رأينا أو استشارتنا، أقول إنه فى كل الأحوال لم تتوفر لنا أى معلومات دقيقة وأجبرنا على أن نعيش مع الفيروس والشكوك، وما ألعنها شكوك، مددا تراوحت.
***
كنت أزعم، وأحيانا عن صدق، أن مناعتى ضد نزلات البرد قوية، شجعنى هذا الاعتقاد على التساهل فى اختيار ملابس للشتاء وأخرى للصيف، لا أتحفظ بشدة على دعوة مفتوحة لقضاء سهرة شتوية فى مكان مفتوح، لا أفكر مرتين قبل الترحيب والتوديع بالأحضان دائما وبالقبلات غالبا، كثيرا ما قضيت خريفا يعقبه شتاء لا يمسنى فيهما فيروس إنفلونزا، أو يمسنى دون أن أدرى، لعله صار هو نفسه أدرى بشعاب صدرى، لا يتوق إليها وإن كتب عليه دخولها دخلها وكله حرص ألا يتوه فيها واثقا فيما يبدو من أنه لن يجد منها تشجيعا على المكوث طويلا، يعرف طريق الخروج ويحرص دائما ألا يخلف وراءه آثارا مزعجة أو ضارة.
***
ذكرتنى صور فوتوغرافية بأن مناعتى ضد الإنفلونزا لم تكن دائما قوية، أذكر كيف كان احتقان الحلق مرضا مقيما طوال مدة طفولتى، أشفقت أمى فرفضت بكل العناد الممكن إجراء عملية اللوزتين فى وقت مبكر، كبرت وكبرت معى اللوزتان حتى جاء يوم تعرضت فيه لغزو مبين من فيروس إنفلونزا، تسبب الغزو فى انتفاخ اللوزتين بأكثر من المعتاد فانسدت تماما منافذ الهواء ومجارى الطعام، قيل لى، وكان القائل هو الزميل وائل فهمى، قال إنه تلقى اتصالا هاتفيا وكان على الطرف الآخر صوت هامس يستنجد، أدرك أن الصوت الهامس صوتى وأننى أقترب جدا من حد الخطر، كنت أقيم على بعد خمسة عشر كيلومترا وهى المسافة التى قطعها مع سيارة إسعاف فى دقائق معدودة. له ولنفر بسيط من أطباء تونسيين الفضل فى إنقاذ حياتى من براثن فيروس عرف مواقع الضعف فى جدار مناعتى فاخترقها غير مبال بحياة كان يمكن أن أفقدها لو تأخر وائل فى الاتصال بالإسعاف أو فشل فى تفسير استغاثتى الهامسة عبر الهاتف.
***
اللعنة على الكورونا. سمعت الحكاية تحكى بطريقة مختلفة من كل شخص شاء أن يحكيها بنفسه منقولة عن غيره أو بابتكار ذاتى. فيروس مثل فيروسات عديدة تهاجم ثم تختفى لفترة قبل أن تعود بمواصفات جديدة. فى قول آخر هو فيروس اصطناعى يتمتع بقوة استثنائية مثل غيره من إبداعات الذكاء الاصطناعى. فيروس يستطيع أن يهزم وحده دولة بعظمة وعنفوان الولايات المتحدة. لا حاجة به لأساطيل وأقمار اصطناعية وصواريخ عابرة للقارات ليحدث الدمار الشامل أو الخراب العظيم. هو آخر خطوة على الطريق نحو يوم القيامة. الكورونا ثمرة المؤامرة «أم المؤامرات». وفى قول آخرين هو فيروس لا يختلف عن أشقائه وأعمامه وأخواله سوى فى أنه ولد فى عصر السوشيال ميديا. للميديا دور لا يغتفر ولا ينكر فى صنع الكورونا أو تجميله أو تضخيمه والتهويل فى بشاعته، دور لم يتح لأى فيروس آخر حتى تلك التى تسببت فى أوبئة وكوارث أطاحت بملايين البشر فى القرن الماضى وحده.
***
أيا كانت نوايا وانطباعات رجال السياسة والحرب فى دول سباق التسلح والهيمنة لا أظنهم غافلين عما فعله فيروس الكورونا على جميع الأصعدة فى فترة لم تتجاوز أسابيع معدودة، ولا أظن بعضهم غافل عن أن الفوضى الدولية الراهنة كفيلة بالتسبب فى كوارث بشرية لن يكون أقلها شأنا التوترات المتفاقمة داخل مجمل العلاقات الاجتماعية، عاد الصديق والزميل الدكتور محمد المخزنجى فى مقال له والذى نشر أخيرا عن الكورونا فى مجلة Scientific American، عاد يذكرنا بالتهديد الذى تمثله البشرية على وجودها إذا لم ينتبه قادة السياسة إلى خطورة أوضاعنا الحالية.
***
أما أنا فأعود إلى التذكير بأننا دخلنا مرحلة جديدة فى حياة البشر، الناس فى هذه المرحلة يعيشون عمرا أطول فى صحة أوفر، قضيت ساعات فى الأيام الماضية أتصل بأقران من كبار السن أذكر أكثرهم، بعض هؤلاء هم من أصحاب الشكوى الدائمة من اعتلال صحتهم وانتقادهم ظروف المعيشة، أذكرهم بآبائنا الذين توقفوا عن العمل وانعزلوا أو رحلوا عن العالم فى سن مبكرة. أولادهم، أى نحن، عشنا سنوات أو عقودا بعد رحيلهم ولا نزال نعمل ونتلاقى ونقيم علاقات جديدة ونطارد الفيروسات بحماسة تفوق حماسة الشباب، إنه بحق وبدون مبالغة، عالم كبار السن.