بقلم : جميل مطر
الخميس هو اليوم الثانى والأخير لمؤتمر قمة الدول الأعضاء فى الحلف الأطلسى. ينعقد المؤتمر فى بروكسل المدينة التى اختيرت لتكون أيضا مقرا للسوق الأوروبية المشتركة واستمرت مقرا للاتحاد الأوروبى. جدير بالذكر أن المنظمتين يمران بمرحلة هى بالتأكيد ليست الأفضل فى مسيرتيهما. لن أذهب بعيدا حيث ذهب آخرون فى وصف الحال المتردية لعموم الجماعة الغربية، يكفى أن أذكر هنا بأن الرئيس دونالد ترامب القائد الأهم شأنا ومالا ونفوذا فى الغرب سبق له أثناء حملته الانتخابية أن اعتبر حلف الأطلسى مؤسسة منتهية الصلاحية. لم نكن نعرف الرجل. راح بنا الظن إلى اتهامه مرة بالجهل ومرة بسوء اختيار مستشاريه، حتى دخل مكتبه البيضاوى وباشر هوايتى التغريد الصباحى وإصدار الأوامر الرئاسية، وعندها تأكدنا أن الرئيس الجديد شخص يكره المؤسسات ويكره الديموقراطية ويكره المبادئ الليبرالية ويكره من يتمسك بها أو يبشر. تأكدنا أن القائد الجديد للجماعة الغربية غير مؤمن بها ولا يثق فى قادتها ويرى إبداعهم الوحيد فى استنزاف ثروات الولايات المتحدة.
هم أيضا تأكدوا. كانوا هناك وكنا أمام الشاشات نشاهد ونسمع بعض ما دار بين الرئيس ترامب وزملائه فى اجتماع قادة الدول السبع الكبرى فى مدينة كيبيك الكندية، كانوا قبلها مشاركين وكنا مشاهدين فى صقلية. كنا بعد ذلك فى كل الدنيا نشاهد فصولا متكررة من مسلسل لقاءات ترامب مع زعماء الغرب. قضينا أوقاتا غير قصيرة نقارن هذه اللقاءات بلقاءاته بزعماء الصين وروسيا وكوريا الشمالية. لم يجامل ترامب رئيسا تحصل بلاده على معونة أو دعم أمريكى أو تستفيد استقرارا ورخاء من عضويتها فى منظمة دولية تساهم واشنطن فى دفع نفقات تسييرها وتسليحها. كل الدنيا، فى رأيه، مستفيدة من منظمة التجارة الدولية ومن حرية التجارة إلا أمريكا. كل الدنيا، فى رأيه، خدعت أمريكا بتوصلها إلى اتفاق حول البيئة والمناخ واتفاق حول الإمكانات النووية الإيرانية. كل العرب استفادوا من حماية أمريكا ولم يسددوا كل ما عليه مقابل هذه الحماية.
***
أما رأينا فخلاصته أن الرئيس ترامب كان ولا يزال العنصر الكاشف لحال الضعف والتردى فى الجماعة الغربية وليس السبب فيه كما يعتقد ويروج بعض قادة إعلام دول فى أوروبا. الضعف الغربى سابق على حملة ترامب الانتخابية. ترامب لم يكتسب خصائص وصفات وتوجهات كثيرة لم تكن موجودة عنده قبل ترشحه لمنصب الرئاسة. ترامب لم ينشئ أتباعا أو ينفق على تشكيل جديد، بل وجد قاعدته الانتخابية جاهزة فى انتظاره. قاعدة كالمروحة تمثلت فيها الأغلبية المتطرفة فى الجماعة الإنجيلية والمنظمات اليهودية والأمريكيون المتضررون من العولمة مثل عمال المناجم وصناعات الصلب والألومنيوم وجمعيات الدفاع عن الهوية القومية والأصول البيضاء والمناهضون للملونين والمهاجرين والأقليات المسلمة.
ترامب لم يظلم قادة أوروبا، كان حريصا على أن يضعهم فى سلة واحدة مع سلفه الرئيس باراك أوباما. كان نصيب أوباما من اللوم أكبر إذ اعتبره ترامب مسئولا عن كثير من سقطات الغرب. لم يتهمه بالتقصير فى قيادة الغرب لأنه هو نفسه لم يحاول حتى لحظة كتابة هذه السطور ممارسة حقه فى تسيير دفة دول الحلف الغربى. لم يمارسه رغم أن بلاده لا تزال الممول الأكبر لميزانية الحلف الأطلسى. الحلف، فى رأيه، لم يعد صالحا لأداء دوره فى الدفاع عن مصالح الغرب وأصدقائه لأن الأعضاء لم ينفذوا تعهدهم رفع نسبة اشتراكاتهم فى ميزانية الحلف إلى ما يصل إلى 2% من مجمل الدخل القومى لدولهم. حتى ألمانيا الدولة الأغنى، وليست الأقوى، بين دول أوروبا لم ترفع مساهماتها إلى هذا الحد. المثال الألمانى يطرح نفسه دائما ليس فقط لأن ترامب لم يحب أسلوب أنجيلا ميركل أو نظراتها القاسية ولكن ألمانيا متهمة فى نظره بأنها واحدة من أكثر الدول استفادة من «الكرم» الأمريكى. سياراتها لها مكانة كبيرة فى السوق الأمريكية واليورو الذى يدعمه اقتصاد ألمانيا القوى بديل جاهز للدولار كعملة عالمية إذا أحاطت الأزمات بأمريكا، وفى النهاية يوجد فى ألمانيا 32 ألف جندى أمريكى وظيفتهم حماية ألمانيا وبقية دول الحلف.
واقع الحال كان أيضا عنصرا كاشفا لحال الغرب المتردى فى المكانة والقوة. هنا، كما فى غيره من العناصر الكاشفة، لم تكن أوروبا مسئولة وحدها عن تراجع مكانة الغرب. أمريكا الدولة القائد فى الدفاعات الغربية لا تزال مسئولة بالقدر الأكبر منذ أن بدأت الحكومات الأمريكية المتعاقبة بعد عهد بوش الابن الانسحاب تهربا من تكاليف المسئولية الدولية. كذلك انكشف اليأس من احتمال نشأة نظام عالمى جديد يعلن الانتصار النهائى للغرب الديموقراطى الليبرالى على كل النماذج الأيديولوجية والثقافية القائمة فى ذلك الحين. وقعت أزمات عديدة لم يتدخل فيها الحلف الأطلسى أو تدخل، كما حدث فى أفغانستان والعراق، تغطية لجهود عسكرية أمريكية فاشلة فارتدى عباءة الفشل ذاتها. تكرر الفشل مضاعفا حين تحمس قادة الحلف لفكرة التمدد غربا حتى حدود روسيا الغربية. أقاموا فى دويلات البلطيق قواعد للحلف وتفاوضوا مع رومانيا والمجر وحين نشبت أزمة أوكرانيا لم يتمكن الغرب، ممثلا فى القوة السياسية للاتحاد الأوروبى بقيادة ألمانيا ولا بالقوة العسكرية لحلف الأطلسى، من إنقاذ أوكرانيا، وكانت الخيبة أشد حين أعلنت روسيا ضم القرم إليها. أى حلف هذا يستحق تقدير أعضائه وبخاصة الأعضاء الجدد إذا فشل فى وقف التمدد الروسى الجديد، أو حتى التهديد به. تعالوا نضيف إلى قائمة فشل الحلف تقصيره فى التصدى لآخر شكل من أشكال الحرب الروسية ضد الغرب. وأقصد الحرب بوسائل إلكترونية كالتدخل فى الانتخابات ونشر الأخبار الكاذبة وبث الوقيعة داخل الجماعة الغربية بل وداخل كل دولة على حدة. هذه الحرب يمكن لو تركت بدون تدخل من جانب الأطلسى أن تشعل فوضى عارمة فتقوم أنظمة حكم فاشية وشعبوية يسارية تفكك الرابطة الغربية. أتوقع على كل حال أن تكون هذه الحرب الإلكترونية محل نقاش فى اجتماع قمة الحلف وإن كنت لا أتوقع جهدا منسقا وجادا لمواجهة هذا الخطر طالما ظل التركيز خلال القمة على التنابذ بالاتهامات والشتائم كما وقع فى نهاية قمة السبعة فى كيبيك.
***
هل يحق لنا أن نحكم على حلف الأطلسى بالفشل لأنه لم يهتم بالقدر الكافى بالتطورات فى ساحة الدفاع والسياسة الخارجية الصينية؟ قد يدفع البعض منا بأن الموضوع لا يهمنا مباشرة نحن المعلقين من الشرق الأوسط. يهمنا بالتأكيد أو يجب أن يهمنا. فالحلف الأطلسى ما زال يفكر بعقلية الحرب الباردة، أى التركيز على روسيا، وأظن أن الروس لا يختلفون كثيرا عن الغربيين فى هذا المضمار. الطرفان عيونهما على أوروبا. لقد عرفت الصين كيف تستغل هذه اللحظة التاريخية علما بأن عيونها هى ذاتها على أوروبا. الهدف النهائى، أو الجائزة، هى أوروبا. أما السباق الجديد على إفريقيا وجنوب آسيا فما هو إلا جهد مطلوب لضمان أمن ممرات التجارة والعمالة الصينية ومناجم أفغانستان وثروات عديد الدول الإفريقية ونفط الشرق الأوسط.
العلامات، وأقصد علامات اللحظة، واضحة. حلف عسكرى غربى يمر بأزمات ثقة وصدقية وقيادة وبعضها جد خطير. وعلى الناحية الأخرى، روسيا كقوة عسكرية صاعدة تريد أن يعترف بها الغرب قطبا عالميا ثانيا قبل أن تسد الصين طرق الصعود وتضع شروطها. ومع ذلك تبقى روسيا فى حاجة الآن للمحافظة على الثقة المتبادلة مع الصين المتوسعة بسرعة والمقتربة أقرب فأقرب من حدود روسيا فى دول جوارها الآسيوى. الغرب يقترب بالعداء من حدود روسيا الغربية والصين الصديقة تنشر الطرق والسكك الحديدية وتنثر قروضها قريبا من حدود روسيا الجنوبية. هدف الصين أنه إذا تجسدت «أوراسيا» حقيقة واقعة ستكون الصين بؤرتها وموقع الهيمنة عليها. إشراك الصين فى تحليل أزمة حلف الأطلسى والغرب بصفة عامة يجعلنا نعتقد أن القمة المنعقدة فى بروكسل اليوم يمكن أن تكون أهم كثيرا مما قد توحى به المظاهر لأول وهلة.
***
بعد أيام يلتقى فى هلسنكى الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، ترامب زعيم الغرب يتفاوض مع الرجل الذى تحمل مسئولية إعادة روسيا إلى مكانة يعتقد أنها تستحقها لولا تآمر دول الغرب عليها، هناك فى هلسنكى سوف يجلس ترامب ممثلا للجماعة الغربية، جماعة تضم ميركل الخارجة لتوها مثخنة بالجراح من معركة قد تكون آخر معاركها الانتخابية، تضم أيضا تيريزا ماى المهددة حكومتها بالانفراط تحت وقع معارك البريكسيت وجميعها معارك ساخنة، هناك أيضا إيطاليا بقيادة مزدوجة الهوية السياسية والاقتصادية وكانت منذ اليوم الأول عدوا لمشروع الوحدة الأوروبية، هذه هى قيادة الغرب التى يتفاوض باسمها مكرها السيد ترامب، يبقى طبعا السيد ماكرون الذى يستطيع أن يفاخر بوتين باعتباره الزعيم الأقوى فى الجماعة الغربية.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع