خرجت الأنظمة العربية من العروبة وعليها فإذا هى بلا هوية وبلا قضية.. وكانت فلسطين أولى ضحايا هذا الخروج من العروبة وعليها، إذ إنها شكلت «القضية» وجسدت «الهوية الجامعة».
بين «المزايدة» القائمة على خطاب ثورجى من دون أى مضمون، وبالتالى من دون أية مسئولية عن الكلام المرسل فى الهواء، بلا أى سند من القوة فى القرار أو فى تنفيذه.. وبين «المناقصة» التى بلغت حد التجرؤ على التفريط بالأرض المقدسة وحقوق شعبها فيها، ضاع شعب فلسطين ذاته، وداخت الشعوب العربية فى بورصة المناقصات والمزايدات: صار هذا الشعب موضع اتهام بالتقصير فى الدفاع عن أرضه واستسهال الخروج منها ولو كضيف ثقيل (ومهان) فى البلاد التى لجأ إليها فى حال من العوز وكثرة الأطفال.. وارتضى رجاله أن يعملوا كمياومين بأجر بائس.
ثم لم يلبث أن جاء «التعاون الدولى» عبر وكالة غوث اللاجئين التى أنشأتها الأمم المتحدة لإغاثة هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين حصرا، فإذا بالتدخل الدولى، الأمريكى أساسا ومعه الإسرائيلى، يحذف «الاختصاص» فتسقط حرف الـ P لتصبح الوكالة أممية وليست مختصة بالفلسطينيين تعليما وتدريبا وإسكانا وإطعاما، UNRWA من دون حرف الـ P الذى يشير إلى المستهدف بالغوث.
وهكذا ارتاحت الأنظمة العربية من عبء «القضية» فرموا أهلها الفلسطينيين بالتقاعس عن حمايتها، ثم أراحوا أنفسهم من عبء أهلها بإحالتهم إلى وكالة الغوث الدولية.. دون أن يمنعهم هذا من الإفادة من خبرات هؤلاء «اللاجئين» فى العمل المصرفى، مثلا، (وهم قد أسسوا أحد أكبر المصارف فى الوطن العربى ــ البنك العربى فى الثلاثينات ــ كما أنشأ بعضهم (يوسف بيدس) أكبر مصرفِ فى لبنان (بنك إنترا الذى استملك عقارات كثيرة فى باريس وعواصم كبرى فى العالم).
كذلك فقد شارك هؤلاء الفلسطينيون المحرومون من وطنهم فى تعمير بعض الدول العربية (الكويت على سبيل المثال) فضلا عن مساهماتهم فى إعمار بعض دول الخليج (قطر) والسعودية، فضلا عن لبنان (مع السوريين).
***
على المستوى الشعبى كان «الإخوان المسلمون» أول تنظيم سياسى حاول توظيف «القضية» سياسيا، وكانت «فتح» أولى التنظيمات الفلسطينية، ثم توالى استيلاد التنظيمات بهدف تحرير فلسطين، فتحولت حركة القوميين العرب، إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، ما لبثت أن انشقت عنها «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» مع ارتفاع تيار اليسار فى الأوساط الشبابية العربية.. ثم ما لبثت الأنظمة العربية، أن دخلت «السوق»، فأنشأ نظام البعث السورى تنظيم «الصاعقة» بينما أنشأ نظام البعث العراقى «جبهة التحرير العربية».
ومن بعد لعبت بعض الأنظمة العربية دورها فى استيلاد المنظمات الجديدة إما عبر انشقاقات فى الجبهات القائمة ليكون لها «حزبها الفلسطينى» كاستثمار مجزٍ فى بورصة المزايدات والمناقصات بعنوان فلسطين، أو عبر «فرز» بعض الكوادر الحزبية لإنشاء «تنظيم فلسطينى».. مستقل.
دفع فشل الأنظمة العربية فى تحقيق أى انتصار فعلى على العدو الإسرائيلى الكثير من الشباب العربى ــ سورى، لبنانى، عراقى، مصرى، تونسى، يمنى..إلخ نحو المنظمات الفلسطينية حاملة لواء التحرير، وتحديدا نحو «فتح» باعتبارها التنظيم ــ الأم، والتى توسعت تدريجيا ــ بعد التخفف من إخوانيتها والمصالحة مع الرئيس جمال عبدالناصرــ فضمت طابور الخارجين من الأحزاب العقائدية (الشيوعيين وقدامى البعثيين والقوميين العرب) فضلا عن «الليبراليين» و«الوطنيين» عموما.
فى 3 فبراير من العام 1969 تقدم ياسر عرفات، ومعه حركة «فتح» ليمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية، ورأى كثيرون فى ذلك انعطافا بالثورة نحو السلطة، بحيث غدا ياسر عرفات «السيد الرئيس» وغدا أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير «السادة الوزراء» ونُسبت المنظمة إلى جامعة الدول العربية كعضو كامل العضوية.. وبدأ زمن جديد من الصراع بين «السلطة» و«حركة التحرير» أو بين «المنظمة» و«الحكومة» و«القائد» و«الرئيس».
تدريجيا تحولت منظمة التحرير بمجاهديها فى الأردن إلى «سلطة» على الأرض تنافس سلطة الملك حسين، فكان «أيلول الأسود» وقمة القاهرة لابتداع تسوية مستحيلة بين «الثورة» و«النظام».. ثم جاءت وفاة جمال عبدالناصر المباغتة، وانتقال مقاتلى منظمة التحرير تدريجيا من عمان إلى جرش فإلى لبنان حيث استقرت الكتلة المقاتلة للمجاهدين فى العاصمة المغرية بكل شىء ما عدا الثورة!
غرقت «الثورة» فى المستنقع الطوائفى اللبنانى، فى ظل تنافس بين الأنظمة على تشجيعها على الانغماس أكثر فأكثر فى الصراع على السلطة ذات الارتكازات الدولية فى لبنان.
وبالتأكيد فإن افتقاد المظلة الجامعة والحامية، ممثلة بمصر جمال عبدالناصر، قد فتحت أبواب الصرع السياسى ــ الطوائفى فى لبنان على مصراعيه، وكان بديهيا أن تنزلق إليه منظمة التحرير، خصوصا وإن الخلافات بين القيادة السورية وقيادة فتح (ياسر عرفات تحديدا) قد تفاقمت حتى بدا الصدام حتميا.
دخلت «قوات الردع العربية»، بأكثرية راجحة من الجيش السورى، لبنان تحت راية الجامعة العربية، وكان الصدام حتميا مع قوات منظمة التحرير، «فتح» ومن معها من الأحزاب اللبنانية.. لكن ذلك حديث آخر، خصوصا أن مناخ الحرب الأهلية عاد فتفاقم خطورة، جارفا معه قوات التدخل السورى، مما مهد للاجتياح الإسرائيلى فى صيف العام 1982 وإخراج قوات منظمة التحرير وقيادتها من لبنان نهائيا.
***
كان هذا العرض ضروريا لمحاولة فهم أسباب الضعف الفلسطينى الحالى: السلطة التى لا سلطة لها على أرضها... ومحاولة الظهور فى مظهر الدولة فى حين لا مقومات لدولة، فالأرض مرتهنة للاحتلال الإسرائيلى الذى يزيد يوميا من مستوطناته فوق الأرض المحتلة بحيث لا يكاد يتبقى منها شىء لشعبها الأصلى... والحصار الأمريكى، مع الإسرائيلى وبعده يطاردها فيقرر دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس... وتسرع بعض الدول العربية (الخليجية خاصة) من خطوات الاعتراف بإسرائيل والتخلى عن «مشروع الدولة الفلسطينية».
كان شعب فلسطين بلا وطن، مشردا فى أربع جهات الأرض، لكن له كيانا سياسيا ما، منظمة التحرير الوطنى الفلسطينى، معترفا به عربيا ومن مجمل دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن منظمة التحرير قد تهاوت كمشروع حكومة جامعة، وكجيش عتيد يُعد للتحرير، كذلك فقد انفض العرب، ممثلين بأنظمتهم، عن «المنظمة» و«السلطة» التى تدور تستجدى رواتب موظفيها و«سفاراتها» فى الخارج.
أما إسرائيل، المعززة بالدعم الأمريكى المفتوح والتخلى العربى المفتوح عن مشروع «التحرير» أو حتى حماية السلطة الفلسطينية، فإنها تمضى فى اجتياح الأرض وبناء المستوطنات للآتين من أربع رياح الأرض فوقها.. هكذا، يجد الشعب الفلسطينى نفسه، مرة أخرى، وحيدا، متروكا للريح.. ويخرج فتيانه وفتياته المجاهدات كل يوم فى تظاهرات الغضب والمواجهة بالأيدى العارية، كما «عهد التميمى»، أو بالحجارة والسكاكين، إذا ما توفرت لمواجهة جيش الاحتلال ووحوش المستوطنين الذين يمنحون ــ كل يوم ــ مزيدا من أراضى الفلسطينيين لبناء المزيد من المستوطنات، ملتهمين بها بعض ما تبقى من الأرض التى قيل إنها تُركت لأهلها.
***
أما الدول العربية فمشغولة عن فلسطين وهموم أهلها بقضاياها الحيوية المستجدة: محاولة استنقاذ العراق المدمر من فتن جديدة يبدو أن بعض سياسييه يعمل لإشعالها، وسوريا تحاول الخروج من المستنقع الدموى الذى أغرقت فيه منذ سبع سنوات، واليمن تغوص فى دمائها المهدورة، وليبيا سقطت سهوا عن الخريطة، وتونس تتهددها الفوضى نتيجة الفقر وعجز النظام فيها، والجزائر غائبة عن الدور الطبيعى بسبب مرض رئيسها.
ومع أن المقاومة الإسلامية قد جاهدت لإخراج الاحتلال الإسرائيلى من أرض لبنان فى العام ألفين، ثم واجهته بشجاعة خارقة حتى هزمته فى صيف العام 2006، إلا أنها ليست مهيأة لتحرير فلسطين، إلا من ضمن منظومة عربية تستند إلى الإيمان الراسخ بالأرض وقدسيتها، وحق أهلها فيها.
الخلاصة: إن الوطن العربى جميعا فى خطر.. بل إن الهوية العربية الجامعة فى خطر داهم، وبعض حامليها يتنصلون الآن ويهربون إلى جنسية أية دولة تقبلهم «رعايا» فيها ولكن فى رتبة «اللاجئين».
لقد هانت الأمة على ذاتها، وسيبقى الهوان قدرها طالما استمر «ضياع» فلسطين.. ولن ينفع التنصل يرمى التهمة على «الفلسطينيين».. فالكل مسئول فى الماضى، ومسئول فى الحاضر، ومسئول عن المستقبل.
و«يا فلسطين جينالك...جينا وجينا وجينالك»!
نقلا عن الشروق القاهري