بقلم - منار الشوربجي
التخصص فى الشأن الأمريكى كثيرا ما يكون عبئا صحيا على صاحبته. وشهور العدوان على غزة خير دليل. فالمرات لا تعد ولا تحصى التى تتابع فيها ما يقوله السياسيون الأمريكيون فتشعر بأنك ستصاب بأزمة قلبية، إما لأن ما يقولونه يمثل جرائم بالجملة أو لأن تصريحاتهم تفرط فى استخفافها بالعقول. لكننى أعترف بأن الأداء الأمريكى أحيانا ما يكون عبثيا لدرجة تبعث على الضحك.
والحقيقة أن السياسيين الأمريكيين لم يبخلوا علينا بالتصريحات التى تمثل جرائم بالجملة. ففى تحد لقرار المحكمة الجنائية الدولية، دعا الكونجرس بمجلسيه نتنياهو لإلقاء خطاب أمامهما! والسناتور ليندسى جرام لم يكتف بدعوة إسرائيل «لتفعل ما يلزمها» فى غزة، وانما أثنى على أمريكا لاستخدامها السلاح النووى ضد اليابان ودعا إسرائيل للاحتذاء بها فى غزة!. ثم إنك لن تجد فى العالم سياسيين مثلوا بلادهم بالأمم المتحدة ثم راحوا يدعون علنا للقتل الجماعى إلا فى أمريكا وإسرائيل. فنيكى هيلى، التى كانت ممثلة بلادها بالأمم المتحدة فى عهد ترامب ثم رشحت نفسها ضده فى الانتخابات الرئاسية، زارت إسرائيل بعد أيام قليلة من مذبحة الخيام التى ارتكبتها إسرائيل فى رفح، وزارت مصنعا عسكريا. وهناك كتبت على قذائف مدفعية إسرائيلية «اقضوا عليهم».
ولم تنس هيلى، قبل أن توقع، أن تكتب «أمريكا» «وإسرائيل» وترسم قلبا بينهما، إمعانا فى الاستهانة بدماء الأبرياء. وبعد الزيارة نشر ممثل إسرائيل السابق بالأمم المتحدة، دانى دينون، صورا للقذيفة قائلا «هذا ما كتبته صديقتى هيلى»، بينما الصورة تظهر هيلى تجلس القرفصاء وتكتب على قذيفة أخرى. وكأن كل ذلك لا يكفى، ففى خضم إبادة المدنيين وترويعهم، سافر 14 قاضيا فيدراليا أمريكيا لإسرائيل بعد مذبحة الخيام نفسها فى رحلة وصفت «بالتعليمية» للاطلاع على كيفية تطبيق إسرائيل للقانون الدولى الإنسانى.
أما الاستخفاف بالعقول، فهو كالعادة يأتى على لسان جون كيربى، المتحدث باسم البيت الأبيض. فحين سئل عما إذا كانت مذبحة الخيام، التى استشهد فيها 45 فلسطينيا وأصيب أكثر من مائتين، تمثل انتهاكا «للخط الأحمر» لبايدن حين حذر بمنع السلاح عن إسرائيل حال دخلت رفح، قال كيربى إن الحدث «يوجع القلوب»، لكنه لا ينتهك الخط الأحمر لأن إسرائيل لم «تقتحم» رفح ولا أرسلت «وحدات عسكرية كبيرة». ببساطة يقول كيربى إن أمريكا لا تعترض على جرائم رفح ما دامت إسرائيل تقتل المدنيين بالتدريج لا دفعة واحدة!.
وأحيانا ما يفتضح أمر الاستخفاف بالعقول حتى يتحول لنكتة. فأمريكا التى تدعم إسرائيل بسلاح ما كان للأخيرة الاستمرار فى القتل دونه، هى نفسها التى أعلنت أنها ستنشئ رصيفا بحريا «مؤقتا» على بحر غزة «لنقل المساعدات» الإنسانية. وبالفعل، أنشأت الرصيف بتكلفة 320 مليون دولار، فإذا به ينهار بعد تشييده بأسبوع وتجرف مياه البحر أجزاء منه لتصل ميناء أشدود. ولو شاهدت الخريطة، ستجد أن تلك الأجزاء قد أطاحت بها الأمواج من غزة فتخطت عسقلان حتى وصلت لأشدود!.
وكما ترى، عزيزى القارئ، فإن متابعة أمريكا فى أيام كالتى نعيشها خطر على الصحة. لذلك، انتبهت مبكرا لحيلة ألجأ إليها وهى التركيز على «أمريكا الأخرى»، أمريكا الحركات الاجتماعية وأصحاب الضمائر الحية. لكن على عكس المرات السابقة فإن «أمريكا الأخرى»، منذ العدوان على غزة حاضرة بقوة أكثر من أى وقت مضى، بدءا باحتجاجات الجامعات، ومرورا بمظاهرت الشوارع، ووصولا للكتاب والصحفيين والأكاديميين الأمريكيين من أصحاب الضمائر الحية، الذين يؤمنون بصدق بالحرية لكل البشر ويرفضون القهر والعنصرية.