بقلم - منار الشوربجي
فارق شاسع بين موقفى الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا من العدوان على غزة. وهو فارق تكمن أحد أسبابه الجوهرية فى الخصائص التى يتسم بها الاستعمار الاستيطانى.
فعلى سبيل المثال، فإن اليهود ليسوا وحدهم «شعب الله المختار»! ففكرة «الشعب المختار» أو «الأمة المختارة»، والقائمة عادة على أساس دينى، فكرة جوهرية يستخدمها الاستعمار الاستيطانى عمومًا، وهو ما يصدق على الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا مثلما ينطبق على إسرائيل! وهى حكاية يروجها المستوطنون، عادة بتنويعات مختلفة تختلف من حالة لأخرى وهدفها إضفاء هالة دينية تبرر السطو على أرض الغير. فقد استخدمها البوير فى جنوب إفريقيا والمستوطنون البيض حينما وطئت أقدامهم الأرض الأمريكية، تمامًا كما تروج لها إسرائيل. فبغض النظر عن الحقيقة، وبغض النظر حتى عن «علمانية» من يروجون لها، الفكرة تُستخدم لتحويل المستوطنين لأبرياء.
فعلى سبيل المثال، تقول الحكاية الرسمية عن نشأة الولايات المتحدة إن البيض الذين رحلوا من أوروبا إلى الأرض الأمريكية كانوا متدينين، هربوا من الاضطهاد الدينى فى أوروبا، والله «اختارهم» لأداء مهمة، فيما يُعرف «بالعقد» مع الله. فهو «اختارهم» لعبور الأطلنطى فكانوا بمثابة «الحجيج» الذين ذهبوا لتلك الأرض من أجل بناء «مملكة الله على الأرض» فيكافئهم الرب ويباركهم. وفكرة «العقد مع الله» مستمدة من أفكار المفكر الدينى البروتستانتى جون كالفين. وهى التى استخدمها أولئك البيض البروتستانت فى أمريكا، والهولنديون فى جنوب إفريقيا. والحقيقة أن بناء «مملكة الله» معناه ضمنيًا امتلاك الأرض التى تبنى عليها تلك المملكة وانتزاعها من أهلها الذين هم، بالضرورة، قوى شيطانية «شريرة» لأنها «تعادى الله» لا أقل. ومن الأمور اللافتة أن بعض روايات الحكاية الأمريكية تستخدم تعبير «أرض الميعاد» للإشارة للأرض الأمريكية!
وفى خبرات الدول الثلاث، ولأنها أمة «مختارة» فهى بالتالى أمة «استثنائية». وقد روجت جنوب إفريقيا زمن الأبارتيد لاستثنائيتها مثلما تتحدث الولايات المتحدة ليل نهار عن أنها بلد «استثنائى» وأمة «استثنائية». وليس خافيًا أن إسرائيل وأنصارها يروجون على الدوام لفكرة مؤداها أن إسرائيل بمثابة «المعجزة»، التى يتغير تعريفها من زمن لآخر. ومسألة «الاستثنائية» تلك تعنى ضمنيًا، بالمناسبة، أن ما ينطبق على باقى الدول، كالقانون الدولى، لا ينطبق على البلد «الاستثنائى»! ولأنها أمة استثنائية، فإنها بالضرورة تحارب «مجموعات» (وليس شعبًا) من الهمج البدائيين الذين لا يعرفون شيئًا عن التحضر.
لكن ممارسات أى استعمار استيطانى مسؤولة أيضًا عن اختلاف موقفى أمريكا وجنوب إفريقيا مما يحدث فى غزة. فالهدف الأول لأى استعمار استيطانى هو القضاء على قدرة أصحاب الأرض على مقاومته. لذلك، يغدو المدنيون هدفًا جوهريًا.
فالاستهداف المتواصل للمدنيين يسعى لإرهابهم ليبتعدوا عن مجرد التفكير فى مقاومته. والاستهداف يستخدم كل الوسائل بما فيها التجويع، والذى استخدم، بالمناسبة، وبشكل متكرر وعلى نطاق واسع فى الحالة الأمريكية ضد السكان الأصليين. ووسط هؤلاء المدنيين، لا يوجد عند المستوطن فارق بين طفل ورجل وامرأة، ولا بين مدنى ومن يحمل السلاح. فالكل مستهدف لأن الكل مشروع مقاومة لابد من إبادته!
ولأن سود جنوب إفريقيا كانوا هم المستهدفين من العدوان والفصل العنصرى وشتى أنواع القهر حتى انتهى نظام الأبارتيد، فإنهم يفهمون بدقة معاناة الفلسطينيين وما يمرون به، كما يعرفون عن ظهر قلب ممارسات إسرائيل وما ترمى إليه. أما الولايات المتحدة وإسرائيل فلا تكفان عن ذكر ما يجمعهما من قواسم مشتركة، إلا أنهما لا تذكران أبدًا أن أحد تلك القواسم الجوهرية هو أفكار الاستيطان وممارساته