بقلم - منار الشوربجي
كانت المفارقة فاضحة حين قامت أمريكا ودول أخرى بوقف تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين بناء على مزاعم إسرائيلية، ثم لم تحرك ساكنًا فى اليوم التالى حين أعلنت إسرائيل بكل فخر عن ارتكابها جريمة حرب جديدة باقتحام جيشها مستشفى بجنين وقتل ثلاثة فلسطينيين بينهم جريح كان طريح الفراش. ومزاعم إسرائيل تلك التى تتهم 12، من أصل 30 ألفًا من العاملين بالوكالة، بالمشاركة فى عمليات طوفان الأقصى نشرتها، بالمناسبة، صحفية بـ«وول ستريت جورنال» خدمت فى جيش الاحتلال! والدول التى أوقفت التمويل لم تفتح تحقيقًا فى تلك المزاعم ولا هى انتظرت تحقيق الوكالة، التى أقالت أولئك الموظفين الذين طالتهم المزاعم. بل توقف التمويل بعد أن غضت تلك الدول الطرف عن أن الوكالة ترسل لهم ولإسرائيل سنويًا قائمة كاملة بأسماء العاملين بها، وأن المزاعم الإسرائيلية تلك أتت فى اليوم التالى مباشرة لصدور قرار محكمة العدل الدولية بل وبعد تصريحات مسؤولين إسرائيليين بأنه «لا يمكن تحقيق النصر دون التخلص من الوكالة»، بل وبضرورة تجويع الفلسطينيين لإجبارهم على ترك غزة.
والمفارقة التى لا تقل فجاجة هى أن تلك الدول التى قررت مشاركة إسرائيل فى عقابها الجماعى للمدنيين الفلسطينيين، لم تعتبر أن قرار محكمة العدل يستدعى فرض أى قيود على إسرائيل أو حتى التلويح بها حال عدم التزام الأخيرة بما طلبته منها المحكمة. بل صارت هذه الدول طرفًا فى عدم الوفاء بمطلب المحكمة بضرورة عدم إعاقة وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين فى غزة.
والقرار الجماعى الذى اتخذته الدول الغربية بوقف تمويل الوكالة يذهب لما هو أبعد وأخطر من ذلك كله، إذ يسهم فى التخلص العنصرى من الفلسطينيين فى غزة هكذا بالجملة والقضاء على «حق العودة» نهائيًا. فوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين نشأت بقرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد نشأة إسرائيل لإغاثة الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم. وهى أنشئت آنذاك بمباركة إسرائيل لأن إنشاءها كان يعفى إسرائيل من المسؤولية المادية التى كانت ستقع على عاتقها تجاه اللاجئين. وقد استغلت إسرائيل، عبر العقود التالية، جهود الوكالة فى مساعدة اللاجئين لتمحو حق العودة من الذاكرة الدولية. والجدير بالتأمل أن إسرائيل لم تبدأ فى مهاجمة الوكالة بانتظام إلا بعد أوسلو. إذ مع تسارع قطار التطبيع صار لزامًا إلغاء الوكالة التى يعنى مجرد وجودها أن هناك لاجئين لهم «حق العودة» بموجب القانون الدولى! وإسرائيل لا تُخفى أهدافها بالاستيلاء على كل الأرض الفلسطينية.
فحتى بعد قرار محكمة العدل الدولية شارك 11 وزيرًا إسرائيليًا فى مؤتمر قالوا فيه علنًا إنه لابد من الاستيطان فى غزة. أما الضفة الغربية، فالاستيطان فيها كان يجرى على قدم وساق حتى قبل طوفان الأقصى. والاستيلاء على ما تبقى من الأرض يعنى طرد الفلسطينيين، كما أعلن مسؤولون إسرائيليون أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية، أو قتلهم بدم بارد كما يحدث اليوم فى غزة. وتزعم الولايات المتحدة أنها تبحث مع إسرائيل إيجاد «بدائل» للوكالة من أجل توصيل المساعدات الإنسانية لغزة. بعبارة أخرى، فإن إسرائيل، التى تبيد الفلسطينيين فى غزة، هى بنفسها التى تختار من ينقذهم من تلك الإبادة!
لذلك كله، ففى خضم حرب ضروس تشنها إسرائيل على المدنيين فى غزة ومخاطر حقيقية بمجاعة وتفشى الأمراض، فإن الدول التى أوقفت تمويل الوكالة الوحيدة التى تنقذ حياة أولئك المدنيين تدرك جيدًا أن قرارها معناه ألا يظل هؤلاء المدنيون على قيد الحياة