بقلم - منار الشوربجي
بعد الإعلان بألمانيا عن حصول الصحفية ماشا جيسين على جائزة «هانا أرندت» المهمة، وتحديد موعد للاحتفال، أعلنت المؤسسة الممولة للحدث ثم المدينة انسحابهما جميعًا من تنظيم الحدث، بينما أصرت لجنة التحكيم على منح الجائزة، فأُلغى الاحتفال وتحدد موعد لحلقة نقاشية ضيقة يتم فيها تسليم الجائزة دون احتفال! أما السبب فكان أن «جيسين»، اليهودية الأمريكية ذات الأصول الروسية، كانت قد كتبت مقالًا بمجلة «نيويوركر» الأمريكية شبهت فيه غزة بـ«الجيتو اليهودى» بأوروبا الشرقية، خاصة وارسو تحت الاحتلال النازى، والتى شهد فيها اليهود أسوأ أشكال التنكيل والمعاناة أثناء جرائم المحرقة. وسواء اتفقت أو اختلفت مع كتابات «جيسين» عمومًا أو حتى مع بعض تفاصيل ما جاء فى ذلك المقال تحديدًا، فإن أطروحته الرئيسية بالغة الأهمية بل ويناقش جوانب تستحق أن تُروى. فمقال «جيسين»، الذى نُشر بعنوان «فى ظلال الهولوكست»، يأخذ القارئ فى رحلة تتعلق بصناعة الذاكرة الجمعية الأوروبية بخصوص المحرقة واعتبارها حدثًا «استثنائيًا» لا يجوز مقارنته بأى حدث آخر. وهى بالمناسبة فكرة تستغلها إسرائيل لتكون «الضحية»، وبالتالى لا يجوز حسابها. وتنتقد الكاتبة تلك الفكرة، مشيرة إلى أن التعلم من التاريخ يتطلب أصلًا المقارنة بين أحداثه. ورفض اعتبار المحرقة حدثًا استثنائيًا فكرة ليست جديدة بل أصر عليها مفكرون يهود كثر، منهم هانا أرندت نفسها، التى تُسمى الجائزة باسمها.
وتشرح «جيسين» بالتفصيل «قيام ألمانيا طويلًا بضبط وتنظيم الكيفية التى يتم بها تذكُّر المحرقة ومناقشتها»، وتبنى الدولة هناك تعريفًا لمعاداة السامية لا يتضمن فقط معاداة اليهود كيهود وإيقاع الأذى بهم، وإنما يتضمن أيضًا أى ما يشير إلى «إسرائيل باعتبارها مشروعًا عنصريًا» أو «يعقد مقارنة بين سياسات إسرائيل المعاصرة وسياسات النازى». ثم تتناول الكاتبة مفارقة بالغة الأهمية، وهى ضلوع اليمين المتطرف بأوروبا، والمتهم أصلًا بالعنصرية ضد اليهود، بتزعم المساواة بين الصهيونية والعداء للسامية لأنها وسيلة لاستهداف المسلمين. فتشير «جيسين»، مثلًا، إلى أن القانون الذى مرره البرلمان الألمانى عام 2019، ويجرم الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل باعتبارها «معادية للسامية»، كان قد قدمه أصلًا حزب «البديل لألمانيا»، ثم اضطرت أحزاب أخرى لكتابة مشروع قانون مماثل لتمريره لئلا تكون قد وافقت على ما قدمه الحزب المتطرف. ثم تنقلنا الكاتبة لحالة بولندا التى سعت تحت حكم اليمين لإعادة كتابة التاريخ ليُحذف منه أى إشارة لضلوع البولنديين فى قتل اليهود، وكيف اشترك نتنياهو عام 2018 فى ذلك عبر بيان مشترك مع رئيس وزراء بولندا يؤكد براءة بولندا رغم التاريخ الموثق، معلقة أن «نتنياهو كان يبنى تحالفًا مع الدول اللا ليبرالية بأوروبا كبولندا والمجر للحيلولة دون تشكل إجماع معادٍ للاحتلال فى الاتحاد الأوروبى. ومن أجل ذلك المسعى كان مستعدًا لأن يكذب بخصوص المحرقة». وفى هذا السياق، تقدم «جيسين» فكرتها الجوهرية، أى تشبيه غزة بجيتو اليهود فى وارسو تحت الاحتلال النازى، قائلة إن هذا التشبيه «يمنحنا اللغة التى يمكن من خلالها وصف ما يجرى فى غزة. فالجيتو اليوم تتم تصفيته». وتلك العبارة القوية أو انتقادات «جيسين» لانتهازية نتنياهو لم يغفرها لها المستعدون لإعفاء إسرائيل من المسؤولية بالمطلق، تمامًا مثلما حدث مع هانا أرندت، الفيلسوفة اليهودية التى هربت من مراكز اعتقال النازى أصلًا. فـ«أرندت» بسبب موقفها من الصهيونية بعد نشأة إسرائيل وانتقاداتها لإسرائيل ولاعتبار الهولوكست جريمة استثنائية ثم رفضها دخول مناحم بيجين أمريكا، كلها مواقف أدت لاختراع تعبير «اليهودى الذى يكره نفسه» كاتهام جاهز من أجل الاغتيال الأدبى والمعنوى لليهود الذين ينتقدون إسرائيل