بقلم - منار الشوربجي
إذا ما ألغت المحكمة العليا الأمريكية دستورية عمليات الإجهاض، كحق منحته للمرأة قبل خمسين عامًا، سيكون الخاسر الأول منه هو سود أمريكا ولأسباب لا علاقة لها بقضية الإجهاض أصلًا. ففى الأسبوع الماضى، تسرب للإعلام تقرير كتبه أحد قضاة المحكمة، نيابة عن أغلبية قضاتها، يقدم فيه الحيثيات التي تراها تلك الأغلبية لينبنى عليها التراجع عن الإجهاض كحق يقره الدستور الأمريكى.
وقد شكل التقرير صدمة للأغلبية من النساء اللائى خرجن في مظاهرات حاشدة، فصرح رئيس المحكمة بأن التقرير الذي تسرب رغم أنه بالفعل الوثيقة الأصلية، فإن المحكمة لم تتخذ قرارها بعد.
غير أن الحيثيات التي جاءت في التقرير هي الأهم على الإطلاق في القصة كلها. فلو صارت هي فعلًا الحيثيات التي يصدر بناء عليها القرار فستمثل سابقة شديدة الخطورة يمكن من خلالها التراجع عن الأغلبية الساحقة من مكتسبات سود أمريكا منذ نهاية الفصل العنصرى حتى اليوم.
والمحكمة العليا الأمريكية ذات طابع سياسى بامتياز. صحيح أن قضاتها التسعة يبقون في مقاعدهم حتى الوفاة أو التقاعد بإرادتهم الحرة، إلا أن الرئيس الأمريكى هو الذي يختار من يتولى المقعد الشاغر فيها. وهو الاختيار الذي يخضع لتصويت مجلس الشيوخ.
والرئيس يختار القاضى الذي يتوافق مع رؤاه الفكرية والسياسية. وتصديق مجلس الشيوخ، هو الآخر، تصويت سياسى بالدرجة الأولى يقوم على أساس مواقف الأغلبية عند التصويت. وهو الأمر الذي أدى لانحراف المحكمة مزيدًا نحو اليمين بعدما اختار ترامب ثلاثة من قضاتها فصار لليمين ستة مقاعد، أي ستة أصوات من أصل تسعة.
أما الحيثيات التي جاءت في تقرير الأغلبية فهى تقوم على فكرة محورية لدى تيار اليمين. فهو قال إن الدستور الأمريكى لا ينص على الإجهاض، وإن قرار المحكمة العليا عام 1973 الذي جعل الإجهاض حقًا دستوريًا صدر في وقت لم يكن فيه الإجهاض حتى جزءًا من تقاليد المجتمع وتاريخه ولا كان منصوصًا عليه في أي من دساتير الولايات المختلفة.
وعليه، فإن القرار كان بمثابة خطأ يستوجب الإلغاء، وإعادة القضية للمجالس التشريعية للولايات ليتولى كل منها اتخاذ قرار بشأنها. ومكمن الخطورة بالنسبة لقضايا السود أمران، أولهما عدم وجود نص دستورى، وثانيهما تفويض الولايات، كل باتخاذ قرارها حسب ما يتراءى لها.
فطوال التاريخ الأمريكى وحتى اليوم، ظلت حكومات الولايات هي العدو الأول لحقوق السود. فولايات الجنوب كانت قد خاضت أصلًا حربًا أهلية رفضًا لإلغاء العبودية. وولايات الشمال، التي لم يكن اقتصادها يعتمد على عمل العبيد، لم يكن يهمها بقاء العبودية ولكنها كانت هي الأخرى ضالعة فيما بعد في الفصل العنصرى وباقى الممارسات الفجة التي اعتبرت غير البيض بشرًا أدنى درجة.
وكان قرار المحكمة العليا عام 1954 لإلغاء الفصل بالمدارس إيذانًا بنهاية مرحلة، واستخدمت المحكمة في حيثياته علم النفس لا الدستور الذي كان ينص وقتها صراحة على الفصل العنصرى.
ومن هنا، فإن تفويض الولايات ما لم يكن هناك نص دستورى يمثل سابقة خطيرة قد تقضى على أغلب مكتسبات السود، خصوصًا مع وصول تيار التفوق الأبيض اليوم للكثير من المناصب المنتخبة بالولايات. والجهة الوحيدة القادرة على إلغاء قوانين الولايات هي الحكومة الفيدرالية، عبر مؤسستيها التشريعية والقضائية، أي الكونجرس والمحكمة العليا. فإذا كان هذا هو موقف المحكمة العليا الفيدرالية، في وقت ارتفع فيه عدد أعضاء الكونجرس من أنصار تفوق البيض، تغدو مخاوف السود قاب قوسين أو أدنى من التحول لحقيقة.