بقلم:منار الشوربجي
عندما يُنشر هذا المقال، الأربعاء، تكون الانتخابات الرئاسية قد أُجريت، وربما أُعلنت نتائجها. وبغض النظر عن الفائز، فإن الفاعل فى صنع النتيجة ليس الناخب وحده، فالمال يلعب دورًا هائلًا فى تشكيل النتيجة بأشكال شتى لا تتسع المساحة لمناقشتها كلها.. لكن لعل الوضع الحالى للإعلام، والدور الخطير لحفنة قليلة من أصحاب المليارات تكون وحدها موضوع المقال.
فالإعلام الأمريكى اليوم ليس نفسه الذى لعب الدور الحاسم فى طرد الرئيس نيكسون من البيت الأبيض، ولا هو الذى خاض معركة شرسة مُصرًّا على نشر ما عُرف بـ«أوراق البنتاجون» التى كشفت عن كذب إدارتى جونسون ونيكسون على الشعب والكونجرس بشأن حرب فيتنام. فالإعلام الحالى إعلام آخر قوَّضه تيار اليمين على مرحلتين، فكانت المفارقة أن أولاهما قادها ريجان الجمهورى، وثانيتهما تولاها كلينتون الديمقراطى! فحتى عام ١٩٨٧ كان قانون «الإعلام العادل» لعام ١٩٣٤ هو الحاكم.. فحتى تحصل أى وسيلة إعلامية على الرخصة الفيدرالية لاستخدام موجات البث تحتم عليها تقديم تغطية «حيادية» للموضوعات الجدلية، كما فرض عليها القانون منح طرفى الجدل مساحة متساوية. لكن اليمين اخترع وقتها حجة مؤداها أن هذا التدخل من الحكومة الفيدرالية يحرم الوسيلة الإعلامية من «حرية التعبير» المنصوص عليها بالدستور. وكان وراء هذا اليمين بالطبع نخبة من كبار الأثرياء، كان هدفهم الهيمنة على الإعلام ليسهل دفع البلاد دفعًا نحو اليمين. ورغم أن المحكمة العليا وقتها رفضت ذلك الطرح مؤكدة أن من يملك ذلك الحق الدستورى هو «المواطن المتلقى»، لا الوسيلة الإعلامية.. ومع ذلك نجح ريجان وحلفاؤه بالكونجرس فى إلغاء ذلك النص من قانون ١٩٣٤، فكانت النتيجة ظهور برامج إذاعية يمينية زاعقة فى أيديولوجيتها، وراحت تحصد مستمعين ومشاهدين بالملايين. غير أن كلينتون زاد الطين بلة حين أصدر قانونًا جديدًا قضى على ما تبقى من عافية الإعلام واستقلاليته، إذ حرر قانون كلينتون الإعلام مما تبقى من ضوابط، كان من بينها حظر احتكار موجات البث، لذلك نشأت شبكات تليفزيونية مثل «فوكس نيوز»، وصار مليادير واحد مثل ميردوخ يملكها هى والعشرات من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.. بل صار من الممكن لملياردير، مثل جيف بيزوز، الذى يملك أمازون العملاقة أن يشترى «واشنطن بوست»، ثم يتدخل فى صنع السياسة التحريرية كما شهدنا وقت الحملة الانتخابية.
المفارقة أن «واشنطن بوست» هى نفسها الجريدة التى أسقطت نيكسون، لا أقل! ومثلت وسائل إعلام اليمين تلك ضغوطًا هائلة على منافسيها لجذب الجمهور، فراحت هى الأخرى تأخذ طابعًا أيديولوجيًا صريحًا لتتمكن من المنافسة. وقد لحق بذلك كله تطور لا يقل أهمية، وهو إعفاء مواقع الإنترنت من أى مسؤولية عما يكتبه القراء، وهو ما امتد لاحقًا ليشمل وسائل التواصل الاجتماعى، فصار المجال الافتراضى أرضًا خصبة لنمو نظريات المؤامرة. الأخطر من هذا كله أن كل تلك المؤسسات الإعلامية العملاقة صارت فى يد حفنة قليلة من أصحاب المليارات الذين صاروا بشكل أو بآخر متحكمين ليس فقط فيما يُنشر من أخبار، وإنما أيضًا فى عالم الأفكار وإنتاجها. فهذه الحفنة نفسها هى التى تُنشئ أو تُمول مراكز الفكر التى تهدف أساسًا لتوفير قائمة بالسياسات، سواء لصانع القرار أو لمرشح الرئاسة. ولاشك أن التمويل يفرض قيودًا على طبيعة الأفكار التى تُطرح، وتلك، وهو الأهم، الواجب حظرها. ولا يعنى ذلك بالضرورة أن يحدد صاحب المال أجندة للمركز، وإنما يكفى أن يعرف العاملون فيه من يمول مركزهم ليتولوا الرقابة الذاتية على ما يطرحون.