بقلم : منار الشوربجي
بوفاة روث بيدر جنزبرج، قاضية المحكمة العليا الأمريكية، صار مستقبل المحكمة بل مستقبل الديمقراطية الأمريكية ذاتها على المحك!.
وقضاة المحكمة العليا الأمريكية، يحاطون عادة بسياج من الوقار وبينهم وبين المواطنين مسافة بحكم مواقعهم وكونهم لا يأتون بالانتخاب. لذلك، كان لافتا أن تتحول جنزبرج لبطلة فى الثقافة الشعبية، تُطبع صورها على الملابس والأكواب، ويطلق عليها بحب وصف «المشاكسة»، الذى يُلحق بالأحرف الأولى لاسمها على غرار نجوم موسيقى الراب. وقد لقبت القاضية بهذا الاسم لمواقفها القوية بالمحكمة دفاعا عن حقوق المرأة والأقليات والفقراء، فضلا عن الحريات العامة والفردية. وقد أصبحت أيقونة لدى الكثيرين ممن وجدوا أنها المعبرة عن آلامهم ومصالحهم. ووصف «المشاكسة» سببه أيضا استجابتها «لمحبيها» الذين طالبوها بعدم ترك مقعدها، رغم مرضها العضال وتقدمها فى السن. فهى فى السابعة والثمانين، بعد صراع ممتد مع السرطان.
والمحكمة العليا الأمريكية ذات طابع سياسى بحكم الدستور، وصارت قضية انتخابية منذ عقدين. وهى مكونة من تسعة قضاة يختارهم الرئيس الأمريكى وهو الاختيار الخاضع لموافقة مجلس الشيوخ، الأمر الذى يجعل المحكمة سياسية بامتياز. فمن الطبيعى أن يرشح الرئيس من يتوافق معه أيديولوجيا، والأمر نفسه ينطبق على مجلس الشيوخ. وعليه ففى زمن الاستقطاب الحالى صارت المحكمة قضية حزبية لا فقط سياسية. وقد يختار أحد الرؤساء أكثر من قاض بينما لا يختار غيره قضاة على الإطلاق. فهى مسألة تتعلق بأن يشغر مقعد فى عهده. فالقاضى يظل فى مقعده مدى الحياة، أو متى اختار بنفسه التقاعد. ومن ثم فإن التوازن الأيديولوجى فى المحكمة يعتمد بالأساس على حياة قضاتها أو تقاعدهم، بما يسمح بدور للرئيس الذى فى الحكم. واختيار قاض بالمحكمة العليا من أهم القرارات التى يتخذها أى رئيس لأن القاضى سيظل فى مقعده لعقود بعد خروج الرئيس من الحكم. فجنزبرج، مثلا، رشحها بيل كلينتون فى 1993 وظلت فى مقعدها بينما جاء للرئاسة بعد كلينتون بوش الابن ثم أوباما ثم ترامب، وهناك بالمحكمة اليوم قضاة عينهم ريجان فى الثمانينات.
وقرارات المحكمة هى الأخرى سياسية لا فقط قانونية تأتى وفق ميول أغلبية قضاتها. فهى مثلا التى منحت الشرعية الدستورية للفصل العنصرى حتى خمسينات القرن الماضى، وهى التى نزعتها عنه فى 1954.
وفى عهد ترامب، تم تنصيب اثنين من القضاة الجدد، مما حافظ على بقاء الكفة فى صالح اليمين بفارق صوت واحد. ومن هنا، صار مستقبل المحكمة على المحك بعد وفاة جنزبرج، الليبرالية، إذا ما نجح ترامب فى الحصول على تصديق مجلس الشيوخ على مرشحه لمقعدها لأن ذلك معناه أن تظل المحكمة ولعقود قادمة تميل بواقع 6 أصوات نحو اليمين. ويخشى الكثيرون أن يؤدى ذلك للنكوص عن الكثير من مكتسبات المرأة والأقليات التى تحققت فى الخمسين عاما الأخيرة. لكن القضية تتعلق أيضا بمستقبل الديمقراطية الأمريكية نفسها. صحيح أن المحكمة حاليا تميل بواقع خمسة أصوات لصالح اليمين، إلا أن مجلس الشيوخ الجمهورى الحالى، يمكنه دستوريا التصويت على مرشح ترامب، حتى حال هزيمة ترامب، بل تحول المجلس لأغلبية من الديمقراطيين، وذلك فى الفترة ما بين الهزيمة فى نوفمبر وحتى تنصيب الرئيس والكونجرس الجديدين فى يناير. ولعل الصراع السياسى الحالى عقب وفاة جنزبرج فى ذاته من أهم دلالات الأزمة التى تعانيها الديمقراطية الأمريكية وتهدد مستقبلها.