بقلم:منار الشوربجي
تصريحات كامالا هاريس بخصوص غزة تكشف عن استراتيجيتها الانتخابية، فحين سُئلت عما إذا كانت ستُحدث تغييرًا فى سياسة إدارة بايدن أجابت بالنفى، كما أجابت بالنفى عن سؤال يتعلق بحظر المساعدات العسكرية لإسرائيل أو جعلها مشروطة.
والحقيقة أن تلك الاستراتيجية كانت واضحة منذ أيام المؤتمر العام، فبمشاهدة وقائعه وجدت نفسى إزاء حملة بيل كلينتون للرئاسة عام ١٩٩٢!، فبعد أن اختارت التقدمى تيم والز نائبًا لها، انطلقت «هاريس» فورًا، كما كتبت هنا منذ أسابيع، تتحرك نحو يمين حزبها، بل انحرفت يمينًا حتى بالنسبة لمواقفها شخصيًّا. وبيل كلينتون كان أول مَن ابتدع تلك الاستراتيجية. وهى تقوم على فكرة مؤداها أن الفوز بالمنصب لا يمكن أن يتحقق دون الفوز بالوسط السياسى- الذى ينحو يمينًا منذ عقود. وعليه، فلابد للحملة أن تقدم رسالة انتخابية تستجيب لمصالح ذلك القطاع من الناخبين. ثم إن تمويل الحملة الانتخابية يحتاج لاستمالة ولو بعض قطاعات أصحاب الأموال والشركات الكبرى، بما يعنى ضرورة الاستجابة لمصالحهم أيضا. ومن هنا، مثلت حملة بيل كلينتون تحولًا نوعيًّا اختلف عن حملات الديمقراطيين الذين سبقوه، فقد سعت حملته لاجتذاب تلك القطاعات. أما قاعدة الحزب الأساسية، من العمال والأقليات، فقد اعتبرتها الحملة مسلمًا بها، كونها لا تملك التصويت للحزب الآخر حفاظًا على مصالحها. وقد نجح كلينتون وقتها فى الحصول على أصوات المستقلين ويمين الوسط، بل نجح فى استقطاب قطاع مهم من الشركات والمؤسسات الكبرى فى القطاع المالى لتمويل الحزب الديمقراطى. لكن تلك الاستراتيجية كانت، بالمناسبة، هى المسؤولة عن خسارة نسبة معتبرة من قطاعات العمال، والتى استغلها ترامب بعد عقود وكانت وراء فوزه!.
لكن يبدو أن كامالا هاريس لم تستوعب الدروس المختلفة لحملة هيلارى كلينتون الفاشلة فى ٢٠١٦، فالولايات المتحدة فى ١٩٩٢ ليست هى نفسها فى ٢٠١٦، ومن باب أولى فى ٢٠٢٤. فالفارق الأساسى بين التسعينيات والألفية الجديدة هو الاستقطاب السياسى الحاد الذى صارت تعانى منه أمريكا، والذى يجعل تلك الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر، فى بلد يستخدم الانتخاب غير المباشر لمنصب الرئاسة .
.. فالناخب الأمريكى لا يعطى، من الناحية الفعلية، صوته للمرشح الرئاسى الذى يفضله، وإنما يعطيه لما يسمى «المجمع الانتخابى»، الذى يختار بدوره الرئيس الجديد. وأصوات الناخبين تترجم لأصوات فى المجمع الانتخابى فى كل ولاية على حدة. لذلك، فهى ليست مصادفة أنه لا الناخب الأمريكى ولا العالم كان يشعر بدور المجمع الانتخابى قبل بداية الألفية الجديدة، ذلك لأن أمريكا لم تكن تعانى استقطابًا وقتها، فالاستقطاب يجعل القاعدة الانتخابية لكل حزب ذات أولوية قصوى، ويجعل للمجمع الانتخابى أهمية كبرى، فالاستقطاب يجعل هامش الأصوات الشعبية بين المرشحَين ضئيلًا، لكن أصوات الفائز منهما تترجم فى المجمع الانتخابى إلى «كل» أصوات الولاية. معنى ذلك، أنه لو امتنعت قطاعات من القاعدة الانتخابية لأحد المرشحَين عن التصويت أصلا، يفوز منافسه. وهو بالضبط ما حدث مع هيلارى كلينتون. وهذا هو نفسه الدرس الثانى. فهيلارى هيلارى فشلت، وقتها، فى أن تلهم قطاعًا واسعًا من جيل الشباب فلم يتحمسوا للتطوع لدعم حملتها ولا للتصويت لها.
لذلك كله، فإن الامتناع عن التصويت لهاريس فى عدد محدود للغاية من الولايات الحاسمة معناه أن تخسر «كل» أصوات الولاية فى المجمع الانتخابى. ومن الولايات الحاسمة متشجان ذات القطاع المعتبر من الناخبين المسلمين والأمريكيين العرب. أما جيل الشباب، فالواضح أن قطاعًا منهم على الأقل صار الموقف من غزة يعنيهم كثيرًا. وهنا تكمن المخاطرة.