بقلم:منار الشوربجي
ساعات قليلة فصلت بين التصريح الفج الذى أطلقه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية وما تبين عن موقف عموم الناس فى بلاده. فالرجل قال عن إسرائيل: «إننا (أى أمريكا) لم نجد أنهم قد اخترقوا القانون الدولى الإنسانى، سواء فيما يتعلق بسلوكهم فى الحرب أو فيما يتعلق بتوفير المساعدات الإنسانية». لكن الأمريكيين كان لهم رأى آخر.
ففى استطلاع أجرته مؤسسة جالوب تبين أن نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون «العملية العسكرية الإسرائيلية فى غزة» قد انخفضت من 50% فى نوفمبر الماضى إلى 36% فقط، بينما ارتفعت نسبة من يرفضونها من 45% إلى 55%. أما الديمقراطيون، حزب بايدن، الرافضون لحرب الإبادة الإسرائيلية فقد ارتفعت نسبتهم من 63% فى نوفمبر إلى 75% اليوم.
ولتلك الأرقام دلالتان، أولاهما أن الرافضين لجرائم إسرائيل ليسوا فقط الأمريكيين العرب والمسلمين ولا التقدميين الأمريكيين وحدهم، وإنما قطاعات ودوائر أوسع. بل لعلها المرة الأولى التى صار فيها دعم إسرائيل بلا شروط عبئًا على صاحبه فى أحد الحزبين الكبيرين. أما ثانيتهما فقد صارت مواقف إدارة بايدن مقطوعة الصلة تمامًا عن قاعدة ناخبيها الديمقراطيين فى عام انتخابى.
وهو ما حذر من تبعاته واحد من أهم خبراء الانتخابات الذين أداروا انتخابات عدة للديمقراطيين ورموز أخرى حول العالم. فجيمز كارفيل قال إن الموقف من غزة بات مشكلة لبايدن «فى طول البلاد وعرضها»، وأضاف أنه يأمل أن «يقوم بايدن وبلينكن» بحل المشكلة قبل المؤتمر العام للحزب وإلا «سيكون وقتًا بشعًا للغاية» فى المؤتمر (يقصد صراعات علنية حادة)، «وأنا على يقين من أن ذلك ما سيحدث عندئذ... وعلى يقين من أن تلك مشكلة هائلة تواجهه (بايدن)».
والتحولات التى تشهدها أمريكا بخصوص إسرائيل لم تعد تقتصر على الرأى العام الأمريكى عمومًا، إذ امتدت لتشمل انقسامًا حقيقيًا بين اليهود الأمريكيين، وهو الانقسام الذى لم يعد جيليًا فقط. فليس جديدًا أن هوة كبيرة صارت تفصل بين الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين والأجيال الأكبر. فتلك الأخيرة تعتبر دعم إسرائيل أحد مكونات هويتها، بينما لم تجد الأجيال الشابة فى إسرائيل سوى دولة مدججة بالسلاح تتبنى نهجًا عنصريًا تجاه الفلسطينيين يبغضون مثيله فى بلادهم.
بل أكثرهم يدعون لبديل الدولة الواحدة، لا الدولتين. وبينما الأجيال الأكبر اعتادت على عدم انتقاد إسرائيل فى العلن مهما كان رفضهم لسياساتها، فإن الأجيال الشابة لا تجد غضاضة فى الإفصاح عن مواقفها بل وتنظيم نفسها لمعارضة إسرائيل.
لكن الجديد اليوم هو أن الأجيال الأكبر ذاتها صارت منقسمة على نفسها. فقد أحدثت حرب الإبادة الإسرائيلية هزة عميقة بينهم، إذ لم يعد من الممكن الدفاع عن إسرائيل. فأغلبية اليهود الأمريكيين منتمون تقليديًا للحزب الديمقراطى. وهم لم يجدوا فيما سبق مشكلة تُذكر فى الانتماء للحزب وللصهيونية معًا. لكن اتساع دوائر من ينتقدون الصهيونية لا فقط إسرائيل، خصوصًا بالحزب الديمقراطى وبين الشباب اليهود، خلق لهؤلاء مأزقًا من نوع جديد.
ومما لا يقل أهمية أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، المعروفة اختصارًا بـ«إيباك»، وهى أهم منظمات لوبى إسرائيل، والتى ظلت حتى وقت قريب فوق الانتقاد، صارت تهاجم اليوم علنًا وعلى نطاق واسع، بل إن عددًا من الرموز اليهودية المهمة نشرت بيانًا أعلنت فيه رفضها تأييد أى مرشح للكونجرس تدعمه «إيباك»!
ورغم أن كل تلك التحولات لاتزال تتطلب تراكمًا مستمرًا لتحدث تغييرًا حقيقيًا فى صنع القرار، فإن ذلك التغيير برزت بوادره الأولى بالفعل.