بقلم : منار الشوربجي
تنصيب جو بايدن رئيسا، وعزل ترامب من عدمه لن يغير حقيقة الواقع الأمريكى الذى سيظل بالغ الخطورة. فهو واقع ينطوى على استقطاب مجتمعى حاد، لا مجرد استقطاب سياسى، ينذر بعنف شرس واتجاه نحو السلطوية وقمع الحريات.
ولعل الأكثر دلالة على كل ذلك هو الحال البائس الذى يعانى منه الحزب الجمهورى. فأخطر ما أصاب الحزب فى السنوات الأربع السابقة هو أنه أنهى وجوده بنفسه. فقد جرت العادة بالولايات المتحدة على أن يحتفظ الحزب باستقلالية نسبية عن الرئيس المنتمى له. وهو ما يعنى أن يتخذ أعضاء الحزب فى الكونجرس مواقف قد تعارض الرئيس بشأن قضايا مهمة هنا وهناك. صحيح أن تلك الاستقلالية قد تضاءلت نسبتها فى العقد الأخير مع ارتفاع حدة الاستقطاب السياسى، إلا أن هناك فارقا كبيرا بين تضاؤل تلك النسبة وبين تماهى الحزب مع الرئيس حتى صار «حزب ترامب» لا الحزب الجمهورى!
فطوال سنوات حكم ترامب، وباستثناءات نادرة، تلاشت الانتقادات العلنية حتى لأكثر مقولات ترامب عنصرية وفجاجة. ووقف الحزب بكل قوة وراء سياساته، بما فى ذلك تلك التى مثلت انقلابا على مواقف الحزب التقليدية الداخلية والخارجية. ورغم التقارير الصحفية المتواترة عن انتقادات قيادات الحزب بالكونجرس لترامب خلف الأبواب المغلقة إلا أن تلك القيادات ابتلعت ألسنتها فى العلن. وكان وراء ذلك خوف أعضاء الحزب بالكونجرس من الهزيمة فى أول انتخابات تشريعية أمام مرشحين يمثلون أنصار ترامب من تيار تفوق البيض بتنويعاته المختلفة. ومن هنا، كانت المفارقة. فأعضاء الحزب الذين خشوا أن يهزمهم تيار التفوق الأبيض صاروا معبرين عنه بالمجان! وقد تجلت تلك الحقيقة حتى بعد اقتحام الكونجرس. فقد رفض 93% من النواب الجمهوريين التصويت لصالح عزل ترامب. لكن الأخطر من ذلك هو ما أسفرت عنه استطلاعات الرأى بين ناخبى الحزب. فقد تبين أن 64% من الجمهوريين يناصرون مواقف ترامب عشية اقتحام الكونجرس والتى مثلت تحريضا مباشرا لأنصاره، بينما يرغب 57% منهم فى أن يكون ترامب هو مرشح الحزب الجمهورى فى انتخابات الرئاسة القادمة 2024. ولم يرغب سوى 17% من الجمهوريين فى طرد ترامب من منصبه قبل نهاية ولايته. وهى رؤى تختلف تماما عن غير الجمهوريين من الناخبين.
وذلك كله يزيد من حدة الاستقطاب الذى لم يعد فقط استقطابا سياسيا وإنما صار استقطابا مجتمعيا رصدته استطلاعات الرأى العام المرة بعد الأخرى. فعقب الانتخابات الأخيرة مثلا، قال 80% من ناخبى كل من ترامب وبايدن أنهم يؤمنون بأن اختلافهم مع الطرف الآخر ليس فقط سياسيا وإنما هو خلاف بخصوص القيم الجوهرية التى يؤمنون بها، فضلا عن قناعتهم العميقة بأن الطرف الآخر لا يفهمهم على الإطلاق.
والاستقطاب المجتمعى هو أقصر الطرق نحو قبول السلطوية. فاندلاع العنف يؤدى لأن تتحول المدن الأمريكية لقلاع تحرسها قوات أمنية هائلة تحكمها أوضاع استثنائية أول الأمر، مثلما هو الحال اليوم. فالعاصمة واشنطن صارت قلعة عسكرية يحرسها 25 ألفا من قوات الحرس الوطنى، الذى تم استدعاؤه أيضا لحماية عواصم الولايات من احتمال اندلاع أعمال عنف واسعة أثناء تنصيب الرئيس الجديد وبعده. والأوضاع «الاستثنائية» ستنطبق ليس فقط على مسيرات حركة التفوق الأبيض، المدججة بالسلاح، وإنما على غيرها من الاحتجاجات السلمية مثل مسيرات حركة «حياة السود مهمة» والمنظمات التى شكلت معها الحملة الشعبية الواسعة المطالبة بالعدل العرقى ومواجهة العنصرية الهيكلية، بل وعلى كل الحركات الاجتماعية الأخرى الداعية للعدل الاجتماعى والاقتصادى.