بقلم : منار الشوربجي
المسكوت عنه فى الخطاب السياسى كثيرًا ما يكون أكثر دلالة وأهمية مما يتم الحديث عنه. لذلك، لفت انتباهى أن أول خطاب يلقيه جوزيف بايدن عن سياسته الخارجية، فور توليه الحكم، لم يذكر فيه أفغانستان والعراق، ولا حتى أتى على ذكر إسرائيل! ذلك رغم أن بلاده لاتزال، بعد عشرين عامًا من الغزو، لها قوات عسكرية فى أفغانستان، ودفعت ثمنًا ماديًا باهظًا وخصمًا هائلًا من سمعتها الدولية بغزوها للعراق، وفق أسباب ثبت أنها ملفقة. وتسعى الإدارة الجديدة لإنهاء ما يسميه بايدن «الحروب اللا نهائية»، لكن من دون أن تترك قواته «من ورائها فوضى تنذر» بعودتها. ولم يكن أقل دلالة، من غياب العراق وأفغانستان، أن غابت إسرائيل هى الأخرى عن الخطاب. وتلك مسألة استثنائية، ليس فقط فى خطاب يدشن فيه رئيس أمريكى سياسته الخارجية وإنما أيضًا لأن بايدن تحديدًا ظل طوال تاريخه السياسى الذى امتد لأربعة عقود يصف نفسه بأنه «صهيونى». وفى ذلك الخروج عن المألوف مؤشر جديد على أن أولويات الإدارة الخارجية لأوروبا وآسيا لا الشرق الأوسط، الذى ستسعى فيه أساسًا «لتفكيك التوترات» على حد تعبير بايدن نفسه.
فمن ناحية، يسعى بايدن لاستعادة مكانة بلاده الدولية، خصوصًا فى الغرب، بعد أن انهارت سمعتها فى فترة حكم ترامب. فالثقة بقدرة أمريكا على تولى مقعد القيادة وصلت لأدنى مستوياتها، خصوصًا بين حلفائها الكبار. فقد أثبتت الدراسات انهيار الثقة فى الزعامة الأمريكية بأوروبا الغربية، من بريطانيا، أقرب حلفائها، ومرورًا بفرنسا وألمانيا ووصولًا للسويد وهولندا، بل وصار الاتحاد الأوروبى يؤمن بأن أمريكا لم تعد القوة المهيمنة فى عالم اليوم، ولا باتت هيمنتها مرغوبة. ومن الناحية الأخرى، فالطبيعى بالنسبة لإدارة تعتبر الصين التهديد «الجيو استراتيجى الأول»، كما قال وزير الخارجية، أن تعطى لآسيا أولوية، خصوصًا أنها تجد فيها فرصًا تجارية واقتصادية.
أما الشرق الأوسط فالأولوية الأولى فيه للتعامل مع إيران. وكان واضحًا من اختيارات فريق الشرق الأوسط أن أغلب رموزه ذات خبرة بالملف الإيرانى على وجه التحديد. فالإدارة تسعى للعودة للاتفاق الخاص بالبرنامج النووى الإيرانى، وربما توسيع نطاقه. ويبدو أنها لا تنوى إعطاء إسرائيل حق الفيتو على بنود المحادثات مع إيران ولا نتائجها. والولايات المتحدة فى عهد بايدن لن تكون أقل دعمًا لإسرائيل من أى إدارة سابقة لكنها ستكون أقل دعمًا لبنيامين نتنياهو شخصيًا.
وعدم اتصال بايدن برئيس الوزراء الإسرائيلى إلا بعد شهر كامل من توليه، كان فى تقديرى إشارة للإسرائيليين، فى خضم معركة انتخابية إسرائيلية، أنه لا يدعم نتنياهو. أما الدعم المستمر لإسرائيل ذاتها فقد تجلى فى رفض الإدارة بكل قوة خطوة المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق بخصوص جرائم حرب إسرائيلية. وغياب إسرائيل عن الخطاب الأول لبايدن له دلالة تتعلق بالقضية الفلسطينية. صحيح أن هناك مؤشرات للتراجع عن مقاطعة السلطة الفلسطينية والعودة لتمويل وكالة غوث اللاجئين فضلًا عن تصريحات، خصوصًا من وزارة الخارجية، تؤكد على دعم «حل الدولتين»، إلا أنه من المستبعد أن تبادر بفتح الباب لمفاوضات جديدة.
ورغم أن رموز الإدارة لا تكف عن ذكر حقوق الإنسان فيما تصفه بدعم «قيمنا» فى صنع السياسة الخارجية «لا فقط مصالحنا»، إلا أن الأرجح أنها ستتناول ذلك الملف ليس عبر الضجيج الإعلامى ولا الخطاب العلنى، وإنما فى اللقاءات المباشرة مع زعماء المنطقة، فى أغلب الأحيان، ثم تتوقع استجاباتهم عبر نتائج ملموسة على الأرض.