المقال الذي نشره كاتب الرأى الشهير جورج ويل وأثار ضجة الأسبوع الماضى هو أحد تجليات الأزمة العميقة التى تعيشها الولايات المتحدة حتى أن سلسلة من رموز نخبة الجمهوريين التقليدية صارت تقفز علنا من سفينة الحزب الجمهورى بل وتعتبر أن الحزب قد صار يمثل خطرا على الديمقراطية الأمريكية ذاتها.
فجورج ويل كاتب رأى، ينشر مقالين أسبوعيا فى صحيفة الواشنطن بوست. وليس سرا أن جورج ويل كاتب محافظ يميل بوضوح للحزب الجمهورى، وطالما دافع عن سياساته ورموزه السياسية. غير أن الرجل كتب مقالا الأسبوع الماضى دعا فيه الناخبين الجمهوريين علنا للتصويت ضد الحزب، ولصالح الديمقراطيين مؤكدا أنه قد آن الأوان ليشغل الجمهوريين مقاعد الأقلية بدلا من الأغلبية فى الكونجرس بعد الانتخابات التشريعية المزمع انعقادها فى نوفمبر القادم.
وأسباب جورج ويل التى حددها فى مقاله كانت واضحة، وهي باختصار أن الكونجرس الذي يتمتع فيه الجمهوريون بالأغلبية تخلى، تحت قيادتهم، عن صلاحياته الدستورية، التى هى جوهر نظام الحكم الأمريكى القائم على التوازن والرقابة، مما يمثل، عند ويل، خطرا على الديمقراطية الأمريكية ذاتها. فهو اتهم الحزب الجمهورى بأنه صار "دمية فى أيدي الرئيس ترامب ومن ثم دعا الناخبين للتصويت للحزب الديمقراطى حتى يستعيد الكونجرس صلاحياته فى مواجهة الرئيس.
والواقع أن التوازن والرقابة، كمفهوم جوهرى قام على أساسه النظام الأمريكى، فلسفته الجوهرية هى عدم السماح لأي من مؤسسات الحكم الثلاث، الرئاسة والكونجرس والقضاء، بالانفراد بأى سلطة من السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. فكل واحدة من المؤسسات الثلاث لها صلاحيات دستورية تمس كل واحدة من تلك السلطات.
فإذا كانت السلطة التشريعية، مثلا من نصيب الكونجرس، فإن للرئيس صلاحية الفيتو، وهي تعتبر صلاحية تشريعية تمثل قيدا على الكونجرس، الذي لا يملك دستوريا إلغاء فيتو الرئيس إلا إذا امتلك أغلبية الثلثين فى كل مجلس. وبالمثل، فإذا كان للرئيس السلطة التنفيذية، فإن الكونجرس يمثل قيدا عليه لأنه وحده الذي بإمكانه مثلا إعلان الحرب، وإنشاء الهيئات التنفيذية المختلفة، فضلا عن التصديق على كل تعيينات الرئيس للمناصب التنفيذية والقضائية. وهكذا.
ومن بين الصلاحيات الدستورية التى يرى الكثير من الجمهوريين، ومنهم جورج ويل، أن الكونجرس تخلى عنها ما يتعلق بالتجارة الخارجية. فالنص فى الدستور الأمريكى صريح فى منحه تلك السلطة للكونجرس لا الرئاسة. لكن الكونجرس كان قد ابتدع نظاما هدفه عدم إحراج الرئاسة حين تتفاوض مع دول أخرى بشأن اتفاقات التجارة الحرة فى حالة قيام الكونجرس، وفق سلطاته، بتعديلها بعد توقيع الرئيس عليها أو إذا ما تأخرت المؤسسة التشريعية فى البت فيها وفق أجندتها المزدحمة.
وقد قام هذا النظام على اشتراط أن يقوم الرئيس، طوال فترة المفاوضات التجارية بإخطار الكونجرس أولا بأول بكل تطوراتها، وذلك فى مقابل أن يمنح الكونجرس للاتفاقية، متى وقعها الرئيس، "مسارا سريعا" على جدول أعماله، أى لا تنتظر دورها، بل ويتم التصويت عليها دون تعديل بالرفض أو الموافقة.
وقد تم العمل بذلك النظام الذي صار يعرف "بالمسار السريع" منذ فترة. لكن المؤسسة التشريعية راحت تمنح الرئيس تلك المزية لسنوات طويلة قادمة. وهو بالضبط ما حدث عام 2015. فتحت ضغوط من إدارة أوباما، وافق الكونجرس، ذى الأغلبية الجمهورية، على منح الرئاسة "المسار السريع" حتى عام 2018 مع إمكانية مد الفترة حتى عام 2021، أى أنها تغطى فترة حكم ترامب بالكامل. والحقيقة أن الجمهوريين لا الديمقراطيين هم الذين أعطوا لأوباما ذلك النصر.
فقيادات الحزب الديمقراطى، أى حزب أوباما، وقفت ضده بقوة فى تلك المعركة التى حسمها الحزب الجمهورى، حزب الأغلبية وقتها. فالقوى الرئيسية للحزب الديمقراطى، كاتحادات العمال ومنظمات البيئة فضلا عن يسار الحزب، حاربوا منح أوباما تلك الصلاحية بينما الحزب الجمهورى، المدافع تقليديا عن التجارة الحرة، كان سندا للرئيس الديمقراطى.
لذلك، يجد الكثير من الجمهوريين اليوم أنفسهم فى مأزق بعد أن وصل للحكم رئيس جمهورى راح يفرض، بإرادة منفردة، تعريفات جمركية على الحلفاء قبل الخصوم، مما صار يهدد بحرب تجارية فعلية، سواء مع كندا واليابان وأوروبا والمكسيك أو مع الصين، فى الوقت الذى يقف فيه الكونجرس عاجزا، ليس فقط لأن الكثير من الجمهوريين يخشون معارضة ترامب الذى يحظى بشعبية فى أوساط الحزب، وانما لأنهم تخلوا بالفعل عن صلاحيتهم الخاصة بالتجارة الحرة حين وافقوا على منح "المسار السريع" لأوباما، ولمدة تتخطى ولايته لتشمل ولاية من يأتى بعده.
وقد كان لافتا أن العضو الوحيد الذي تحدى إدارة ترامب بخصوص موضوع التعريفات الجمركية هو السناتور جيف فليك الذي كان قد أعلن أنه سيتقاعد ولن يخوض الانتخابات القادمة. فهو أعلن أنه على استعداد لوقف التصديق على ترشيحات ترامب للمناصب القضائية، لدفعه لتغيير موقفه بشأن التعريفات الجمركية.
ومأزق التجارة الخارجية هو أحد تجليات حالة شاملة انتقدها الجمهوريون قبل الديمقراطيين تتعلق بتخلى الكونجرس عن صلاحياته لصالح الرئاسة.
نقلا عن البيان الاماراتية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع