بقلم : منار الشوربجي
في خطاب تنصيبه، وصف جوزيف بايدن الديمقراطية بأنها «هشة» ولكنه أضاف أنها قد «فازت» في بلاده. وعبارات بايدن تستحق التأمل. فالديمقراطية الأمريكية، في تقديرى، خرجت بالكاد من كبوتها الأخيرة، لكن فوزها ليس مؤكدا. والكبوة الأخيرة هي تلك التي بدأت بمجرد فوز بايدن، حيث انطلقت حملة منظمة بقيادة ترامب شخصيا، وبدعم من حزبه، للانقلاب على إرادة الناخبين. وقد وصل الشحن والحشد لذروته حين اقتحم الكونجرس بالسلاح أنصار ترامب من تيار تفوق البيض، والذين كانوا يخططون لاغتيال قيادات بالكونجرس بمن فيهم نائب ترامب نفسه مايك بنس. وهو تيار لن يتلاشى نفوذه من على الساحة الأمريكية. وخطورة تزايد نفوذه تهدد الديمقراطية ذاتها. فاستخدام العنف تجاه المسؤولين المنتخبين يطعن الديمقراطية في مقتل، ولكن خطورته تزداد لارتباطه بأحد الحزبين. فرغم رحيل ترامب، لايزال الحزب الجمهورى «حزب ترامب». فحتى قيادات الحزب بالكونجرس، التي كانت قد أدانت ترامب وحملته المسؤولية عن اقتحام الكونجرس، تراجعت بعد أيام وعادت لدعم الرجل بأشكال مختلفة. فزعيم الجمهوريين بمجلس الشيوخ، متش ماكونيل، أدان ترامب عشية اقتحام الكونجرس، لكن ما هي إلا أيام قليلة حتى كان ضمن 45 من أصل 50 جمهوريا بالمجلس رفضوا مجرد عرض موضوع محاكمة ترامب على المجلس. وزعيم الحزب بمجلس النواب، كيفين ماكارثى، الذي حمل ترامب المسؤولية عن الاقتحام، عاد وزاره بفلوريدا ثم خرج من الاجتماع قائلا إنه ناقش مع ترامب سبل عودة الحزب لمقاعد الأغلبية في انتخابات 2022 التشريعية. بعبارة أخرى، فإن أغلبية قيادات الحزب الجمهورى بل وناخبيه لا يجدون غضاضة في محاولة ترامب الانقلاب على الإرادة الشعبية.
وقيادات الحزب الديمقراطى ليست أفضل حالا بالمناسبة. فالمواقف الخطيرة «لحزب ترامب» تدفع الساحة السياسية برمتها لمواقف متطرفة. فقد كان لافتا أن تستخدم رئيسة مجلس النواب، الديمقراطية، نانسى بيلوزى، تعبير «العدو الداخلى» لوصف زملائها الجمهوريين بالكونجرس «الذين يريدون أن يأتوا بأسلحتهم لقاعة المجلس ويهددون باستخدام العنف ضد زملائهم من الأعضاء». فتعبير «العدو الداخلى» استخدم في تاريخ أمريكا خصوصا أثناء الحرب العالمية الثانية لممارسة القمع، فكانت المكارثية نتيجته الطبيعية.
ورغم أن الانتخابات لم تكن يوما مصدرا لديمقراطية الولايات المتحدة، بل أحد مواطن ضعفها، بسبب علل النظام الذي تقوم عليه، فإن جوهر الديمقراطية الأمريكية ظل دوما في عمل المؤسسات السياسية فضلا عن الحريات المدنية. وكلاهما بالمناسبة تعرض للقصف المنظم منذ عهد بوش الابن.
والاستقطاب السياسى أصبح مصدرا رئيسيا للخلل المؤسسى. وهى ليست مصادفة أن يصدر بايدن ذلك الكم الهائل من الأوامر التنفيذية في الأيام العشرة الأولى لإدارته. والأمر التنفيذى، في الأصل، أداة يملكها الرئيس لإصدار توجيهات للهيئات التنفيذية التابعة له. وهو ليس أداة ديمقراطية بحال. فهو قرار يتخذه الرئيس منفردا دون أي دور للكونجرس، ومع ذلك يعامل معاملة القانون الذي تصدره المؤسسة التشريعية ويوقعه الرئيس. لكن منذ عهد كلينتون صار الرؤساء أكثر لجوءا للأوامر التنفيذية. فقد لجأ لها كلينتون وأوباما بسبب حدة الاستقطاب السياسى بينما استخدمها بوش الابن وترامب لميلهما نحو السلطوية. لكنها في الحالتين تلتف حول صلاحيات الكونجرس. ومن هنا، فهى تقوض التوازن الدقيق بين مؤسسات الحكم الذي هو جوهر الديمقراطية الأمريكية. لكن لأن كل رئيس جديد بإمكانه إلغاء الأوامر التنفيذية لسلفه بجرة قلم، فإن تلك الأوامر تنشئ سياسات جوهرية ولكنها لا تدوم طويلا، مما يدفع نحو عدم الاستقرار السياسى!.