بقلم:منار الشوربجي
«افعل ما ينبغى لك فعله». كانت تلك هى الكلمات التى أعلن ترامب بنفسه أنه قالها لنتنياهو، الذى طلب مشورته حول كيفية الرد الإسرائيلى على الضربة الإيرانية، فترامب حكى لجمهوره ما دار بينه وبين نتنياهو حين اتصل به الأخير. وقال لهم أيضًا إن رئيس الوزراء الإسرائيلى أخبره بأنه تجاهل تحذير إدارة بايدن من دخول رفح قبل شهور، «ولولا هذا التجاهل لما كان من الممكن الوصول إلى يحيى السنوار».
وما قاله ترامب يحمل دلالات عدة، لعل أكثرها وضوحًا أنه، حال فوزه بالرئاسة، سيمنح نتنياهو شيكًا على بياض فى استكمال جرائم الإبادة الجماعية فى غزة، وفى محاولاته لاحتلال شمالها، وضم الضفة الغربية، فضلًا عن حربه ضد لبنان، بل إيران، حتى لو أدى ذلك إلى حرب إقليمية. لكن ما جاء على لسان ترامب هو واحد من أهم تجليات التراجع الأمريكى داخليًّا وخارجيًّا، فحين يقول مرشح للرئاسة ما قاله ترامب، ثم يصمت الإعلام الأمريكى صمت القبور معناه أن التراجع لم يعد يقتصر على تجاهل القانون الدولى، وإنما طال القوانين الأمريكية ذاتها، فالقانون الأمريكى يعاقب بالسجن ثلاث سنوات مَن يقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بالاتصال «بحكومة أجنبية بخصوص نزاع أو خلاف دائر مع الولايات المتحدة». وترامب أجرى، بالمناسبة، اتصالات مشابهة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، حين كان مواطنًا عاديًّا، مع الرئيسين الروسى والمجرى.
وفى تقديرى الشخصى، فإن مجرد وجود فرصة حقيقية لترامب للعودة إلى منصب الرئاسة هو أحد أهم تجليات ذلك التراجع، فترامب الذى سيصل إلى ٨٢ عامًا حين تنتهى ولايته قد بدَت عليه بوضوح، خلال الحملة، علامات تراجع ذهنى. وتصريحاته خلال الحملة تعنى أن عودته إلى الرئاسة ستعنى النهاية لما تبقى من الديمقراطية الأمريكية، التى هى بطبيعتها محدودة أصلًا، فترامب قال صراحة، وأكثر من مرة، إنه ينوى الانتقام من خصومه السياسيين، ويحكم البلاد بقبضة حديدية تتجاوز القوانين، بل الدستور الأمريكى نفسه. وقال لجمهوره: «فى انتخابات ٢٠١٦، قلت لكم أنا صوتكم، واليوم أقول لكم أنا المحارب وأنا العدل نيابة عنكم، فلو كانت لك مظلمة أو خدعوك، فأنا أنتقم لك منهم»، وهو الذى قال إنه يريد أن «يكون ديكتاتورًا»، ثم تراجع قليلًا، فقال: «ديكتاتور فى اليوم الأول على الأقل» لتوليه الرئاسة من جديد. والرجل يستخدم مفردات فاشية لا تخطئها العين تمجد العنف، وتخترع عدوًّا داخليًّا، وتعتبر «الأمة» الأمريكية بيضاء، وتتفوق عرقيًّا على غيرها من الأمم. وهو لا يكف عن الحديث عن «عدو الداخل» وعن نفسه باعتباره «الزعيم القوى المخلص»، ويصف المهاجرين، مثلًا، بأنهم «مجرمون خارجون عن القانون» يأتون من دول العالم الثالث، ووجودهم «يسمم الدم الأمريكى»!.
والقضاء على ما تبقى من الديمقراطية قد يبدأ فور إعلان النتيجة، فترامب يقول إن الانتخابات ستُزوَّر ضده، وإن ذلك التزوير «سيستوجب وقف العمل بكل القواعد والقوانين، بل حتى مواد الدستور»، بل هدد صراحة بالحرب الأهلية بقوله إن خسارته الانتخابات ستعنى «حمامات الدم» فى الشوارع. والمسألة لا تقتصر على مجرد تصريحات، فالأجندة السياسية التى أعدها له مركز الفكر اليمينى «هيريتدج» لتكون بمثابة برنامج الحكم، وأعلن بنفسه دعمها العام الماضى، هى فى جوهرها عبارة عن مخطط لتفكيك مؤسسات الدولة، خصوصًا المصممة للرقابة على الرئاسة وتقييد صلاحيات الرئيس، ومن ثَمَّ إطلاق يد فرد واحد فى شؤون أمريكا الداخلية والخارجية معًا. وجوهر التراجع هو عدم اكتراث جمهوره بكل تلك المؤشرات!، والتراجع الداخلى يعنى بالضرورة تسارع اضمحلال الامبراطورية الأمريكية فى الخارج.