بقلم - منار الشوربجي
الإجهاض قضية شديدة الجدلية فى الولايات المتحدة، ولا يمكن فهم تعقيداتها إلا فى سياق مجتمعها. فأبعادها المختلفة لا ينفع معها حتى القياس على تجارب أوروبا الغربية. وهى قضية تُحسم على أساسها الانتخابات العامة، وتظل من أهم القضايا التى تطرح عند التصديق على تعيين قضاة المحاكم الفيدرالية بكافة درجاتها.
وقد عادت القضية للصدارة مؤخرا عندما أصدرت المحكمة العليا قرارا ألغى عمليا حق الإجهاض الذى كانت المحكمة نفسها قد منحته للمرأة الأمريكية منذ خمسين عاما. وبينما كان القرار الأول راديكاليا، نقل أمريكا فجأة من حال لحال، لم يكن الثانى راديكاليا بالقدر نفسه، على عكس ما يقول معارضوه.
فهو لم يحظر الإجهاض صراحة ولكنه أحاله للولايات. غير أن هذه، فى حدود علمى، المرة الأولى التى تقوم فيها المحكمة العليا بإلغاء حق كان ممنوحا بالفعل لقطاع من الأمريكيين. وهنا بالضبط مكمن الخطورة، إذ قد يعتبر مقدمة للتراجع عن مكتسبات جماعات أخرى، خصوصا الأقليات.
والإجهاض من أكثر القضايا تعقيدا بالولايات المتحدة لأنه يتقاطع مع الكثير من القضايا. فهو لا يرتبط فقط بالمسألة الدينية، والعلاقة بين الدين والدولة، وإنما بدور الدولة فى الاقتصاد، كما توجد نقاط تماس رئيسية بينه وبين المسألة العرقية والإثنية والطبقية.
وقد أحدث القرار دويا هائلا فى أمريكا. فرغم أن أكثر من 65% من الأمريكيين يؤيدون حق المرأة فى الإجهاض، فإن المعارضين لذلك الحق يعارضونه بشدة على أسس دينية. فهم يؤمنون بضرورة حظر الإجهاض فى كل مراحل الحمل وفى كل الحالات، بما فيها تعرض حياة الأم للخطر وزنا المحارم والاغتصاب. وهم يطالبون، بالمناسبة، بحظر استخدام وسائل تنظيم الأسرة باعتبارها منافية للتعاليم الدينية.
والمتعصبون من أولئك المعارضين يستخدمون العنف الذى وصل لحد إشعال الحرائق فى العيادات واغتيال الأطباء الذين يقومون بعمليات الإجهاض. وهناك صراع دائم بين من يطالبون بدور واسع للدين، البروتستانتية تحديدا، فى الحياة السياسية وبين من يؤكدون على واقع التعددية الدينية الواسعة بالمجتمع، وحق أتباع المذاهب والديانات الأخرى فى اختيار أسلوب حياتهم.
لكن القضية تزداد تعقيدا حين تتقاطع مع المتغيرات الأخرى كدور الدولة الاجتماعى والمسألة العرقية والطبقية. فقرار المحكمة أحال قضية الإجهاض للولايات، بمعنى أن يكون لكل ولاية الحق فى أن تشرع لنفسها ما يراه ناخبوها بخصوص تلك القضية. ومعنى ذلك أن دور الحكومة يظل قائما فى مسألة الإجهاض، فبعد أن كانت الحكومة الفيدرالية المسؤولة عن قانونيته تصبح الولايات المسؤولة عن حظره. وهنا يتضح بعض من جوانب الأزمة.
فنظرا للتباين المتوقع بين قوانين الولايات، سيكون على المرأة أن تسافر من ولاية تحظره لأخرى تبيحه، مما يعنى أن حظر الإجهاض صار ينطبق فقط على المرأة غير القادرة ماليا على دفع تكاليف السفر. إضافة لذلك، ولأن الإجهاض لم يعد حقا فيدراليا، فإن الحكومة الفيدرالية لن تكون مجبرة على تقديم مساعدات مالية للولايات لتغطية نفقاته، أى ستترك تغطيته لميزانيات الولايات التى قد تمتنع عن تغطية نفقاته لغير القادرات، الأمر الذى يكرس من البعد الطبقى للقضية.
لكن الأخطر من ذلك، أن قضية الإجهاض تتقاطع مع المسألة العرقية والإثنية. فحكومات الولايات، الجنوبية تحديدا، ظلت تاريخيا هى المسؤولة عن أسوأ ممارسات العنصرية والتمييز. ومن هنا، فإن أشكال التمييز الطبقى ستتضافر مع التمييز على أساس عرقى وإثنى. بعبارة أخرى، كأن قرار المحكمة العليا لم يحظر الإجهاض على المرأة البيضاء الثرية، إنما حظره على غيرها من النساء!.