بقلم - منار الشوربجي
وقائع القتل الجماعى التى تصدرت الأخبار الأمريكية مجرد واحد من تجليات أزمة هيكلية عميقة. خمس وقائع خلال أسبوعين. أكثرها مأساوية جريمة ارتكبها شاب أبيض أطلق النار عشوائيًّا داخل متجر يرتاده السود بمدينة بافلو بولاية نيويورك، فقتل 13 شخصًا، ونُقل آخرون إلى المستشفى.
وسرعان ما فتح آخر النار بمدينة يوفالدى بولاية تكساس داخل مدرسة ابتدائية، فقتل 19 طفلًا ومعلمتين، ونُقل آخرون إلى المستشفى.
وبعد ساعات قليلة لحق بالحادثين ثالث ورابع وخامس، بأيوا وأوكلاهوما ثم بنسلفانيا والبقية تأتى. وفى كل مرة تتكرر مثل تلك الحوادث، يعود الجدل حول ضرورة وضع قواعد أشد صرامة لاقتناء السلاح واستخدامه، وهو الجدل الذى ينتهى فى أغلب الحالات إلى لا شىء، وفى القليل منها إلى اتخاذ إجراءات محدودة على المستوى الفيدرالى، سرعان ما تتحايل عليها الولايات لتفريغها من محتواها.
والجدل يدور بين طرفين، أحدهما يصر على أن «امتلاك السلاح وحمله» حق ينص عليه الدستور، ومن ثَمَّ فإن أى تشريعات تتعلق به غير دستورية بالمطلق. أما الطرف الثانى فيصر على أن الدستور لا يمنع تنظيم ذلك الحق، وأن القصة هى أن «الاتحاد العام للبندقية»، أعتى جماعات اللوبى الأمريكية، عبر الملايين التى ينفقها والضغوط التى يمارسها، يمثل رادعًا قويًّا للمئات من أعضاء الكونجرس يمنعهم من الاستجابة للمطالب الشعبية بوقف نزيف الدم.
والحقيقة أن الأزمة أعمق بكثير. صحيح أن لوبى السلاح يلعب دورًا جوهريًّا فى ذلك الصدد، إلا أن القضية تذهب إلى أبعد من ذلك، إذ تضرب بجذورها فى عمق التاريخ والثقافة، فالتعديل الدستورى المشار إليه، والذى تم التصديق عليه فى القرن السادس عشر، ينص على أن «الميليشيا المنظمة جيدًا ضرورية لأمن الدولة الحرة، ولا يجوز معها انتهاك حق الشعب فى الاحتفاظ بالسلاح وحمله».
وقتها كان المستوطنون البِيض يشكلون أصلًا تلك الميليشيات لملاحقة العبيد، الذين يهربون من نير العبودية ولقتل الأمريكيين الأصليين مقابل مبالغ مالية عن كل رأس بشرى يأتون به، أى أن الدستور أضفى الشرعية على أوضاع كانت قائمة بالفعل. ورغم أن الأمور استقرت لاحقًا لصالح المستوطنين، ثم أُلغيت العبودية، بعد ذلك بقرون، فإن النص ظل بالدستور، واستغله البِيض، زمن الفصل العنصرى، لقتل السود.
وقتها كانت منظمات التفوق الأبيض تلاحقهم، فتضرم النيران فى بيوتهم وتقتلهم بالسلاح وبالسياط وبالتعليق على الأشجار حتى الموت، دون عقاب. ورغم انتهاء الفصل العنصرى فى ستينيات القرن العشرين، لكن امتلاك السلاح كان قد استقر كأحد الخيوط العميقة فى النسيج الثقافى ذاته، يتم اختراع التبريرات المختلفة لاستمراره، فهو يُبرر تارة بحماية الذات من الجريمة.
وهى قضية كثيرًا ما تحمل دلالات عنصرية تزعم زورًا أن القتَلة فى أغلبهم من السود، ويبررونه تارة أخرى بممارسة رياضة القنص، التى لا تحتاج قطعًا إلى الأسلحة الأتوماتيكية المنتشرة بأعداد مذهلة فى بيوت الأمريكيين، وفى تارة ثالثة يُقال إن امتلاك السلاح ضرورى لحماية الحريات من قيام حكومة جائرة على أساس أن هذا هو مقصد الدستور.
واليوم، ومع الصعود المتنامى لتيار التفوق الأبيض، ازداد بشكل مذهل عدد المنظمات، أو بتعبير الدستور نفسه، «الميليشيات» المُدجَّجة بشتى أنواع الأسلحة الخطرة. والسلطات لا تملك سوى مراقبة تلك التنظيمات، لا نزع سلاحها ولا عقابها، إلا فى صيغة «بعدما»، أى بعدما تكون قد ارتُكبت جريمة ما!، وقد رأينا أولئك المُدجَّجين بالسلاح بالصوت والصورة حين اقتحموا مبنى الكونجرس، العام الماضى، لمنع التصديق على انتخاب بايدن رئيسًا!.