بقلم : منار الشوربجي
جنوح السفينة العملاقة «إيفر جيفن» كان محفزًا لخيال واحدة من أكثر حركات اليمين الأمريكى المتطرف جنوحًا فى أفكارها. تلك هى الحركة التى تُعرف باسم غريب هو «كيوانان» ولم يسمع عنها غير المتخصصين إلا مؤخرًا، عشية اقتحام الكونجرس.
و«كيوانان» حركة تقدم لأنصارها رؤية موازية للعالم يقرأون أحداثه على طريقتهم. وهى قراءة مختلفة جذريًا عن الواقع. والحركة مولعة بالسرية واللغة الشفرية، التى هى مصدر غرابة اسمها. فالاسم حافل بالرموز. فأنصار الحركة على قناعة بأن شخصًا نافذًا بالحكومة الفيدرالية يسرب أخبارها لهم. وهم يرمزون له بحرف «كيو» فى الأبجدية الإنجليزية. أما انون، باقى اسم المنظمة، فلا يقل غموضًا عن «كيو». فالكلمة تُستخدم أحيانًا فى أمريكا كاختصار لكلمة «مجهول الهوية». غير أن «انون» فى الإنجليزية القديمة تعنى «ما سوف يأتى قريبًا»، وهو معنى مهم للغاية بالنسبة للحركة. لذلك ربما يشير مجمل الاسم للسيد «كيو» باعتباره «مجهول الهوية» أو ربما يعنى الاسم السيد «كيو» وما ينتظرونه من «حدث وشيك».
فأفكار الحركة تقوم على وجود مؤامرة لا تبتعد كثيرًا فى مجملها عن نظريات المؤامرة الأخرى واسعة الانتشار وسط أنصار اليمين المتطرف. لكن «كيوانان» تتبنى فكرة ذات طابع خاص مؤداها أن هناك نخبة خطرة فى دوائر الحكم تقوم بالاتجار الجنسى بالأطفال. وتلك النخبة تعمل بأوامر من هيلارى كلينتون (كونها التى نافست ترامب على الرئاسة قبل توليه) وتضم نخبة عالمية ومحلية منها أوباما وبعض رموز هوليوود وأجهزة الاستخبارات الأمريكية. وهى نخبة تتآمر على أطفال أمريكا، البيض طبعًا. وحتى نهاية عهد ترامب آمنت الحركة بأن «كيو» سرب لهم أن ترامب على وشك اعتقال كلينتون وأوباما والباقين فى جوانتانامو، فيما يسمونه «العاصفة». وهم اعتبروا تصريح ترامب عن «الهدوء الذى يسبق العاصفة» رسالة شفرية موجهة لهم. ويؤمنون، بالمناسبة بأن تلك النخبة «الفاسدة» التى حكمت أمريكا قبل ترامب هى التى جعلت الجيش يطلب منه الترشح للرئاسة عام 2016.
بل ويؤمن بعضهم بأن السيد «كيو» هو ترامب شخصيًا أو شخص قريب منه للغاية، على أقل تقدير. لكن انتهاء ولاية ترامب دون حدوث «العاصفة» لم يؤدِ لزعزعة ثقتهم. فالعاصفة صارت «عودة ترامب» للحكم فى 6 يناير، بعد اقتحام الكونجرس الذى شاركت فيه «كيوانان». لكن ترامب لم يعد فصار تاريخ عودته 4 مارس ثم إبريل، وهكذا. والمنظمة تقتات على كافة نظريات المؤامرة الشائعة فى أوساط اليمين المتطرف. لكن ما يميزها عن غيرها هو جوهرية حكاية الاتجار الجنسى بالأطفال فى أفكارها.
وهنا تأتى قصة السفينة «إيفر جيفن»، فما إن جنحت السفينة حتى روجت الحركة فورًا لفكرة مؤداها أن هيلارى كلينتون تستخدم السفينة للاتجار بالأطفال. وسبب الفكرة يتجلى فيه أنصار الحركة بالشفرة والرموز. فالشركة التايوانية المسؤولة عن تشغيل السفينة اسمها «إيفر جرين»، وهو الاسم الرمزى الذى كانت الحراسات السرية الفيدرالية تستخدمه لهيلارى كلينتون حين كانت وزيرة للخارجية. الأغرب من ذلك أن بعض أنصار الحركة راحوا يروجون لأن هيلارى كلينتون قد ماتت، وأن جنوح السفينة هو إشارة إلهية تجسد النهاية المحتومة لجريمة الاتجار بالأطفال التى كانت تمارسها.
لكن وجود مؤامرة على الأطفال حكاية قديمة للغاية فى أمريكا. فهى انتشرت بمنتصف القرن التاسع عشر فى خضم موجة هجرة الأيرلنديين لأمريكا. فالمتهم فى ذلك الوقت كان الأيرلنديين والكاثوليكية، كون الأيرلنديين كاثوليكًا. أما المؤامرة فكانت أنهم «يخنقون الأطفال» البيض البروتسانت. فالمهاجرون كانوا «يقتلون مستقبل أمريكا»!، القضية إذن أعمق من مجرد «النخبة الخطرة».