بقلم - منار الشوربجي
عندما اتخذ اتحاد الكرة الأمريكية قرارا الأسبوع الماضى بإجبار اللاعبين السود على الوقوف لتحية العلم والنشيد الوطنى، تذكرت ما كنت قد قرأته منذ سنوات عن نشأة الكنيسة السوداء فى الولايات المتحدة. فما كان يفعله اللاعبون السود مرتبط ارتباطا وثيقا بميراث مرير من العنصرية والتمييز.
وبداية القصة كانت فى عام 2016 حين اختار لاعب الكرة الأسود الموهوب كولين كيبرنيك أن يركع على قدم واحدة فى هدوء طوال إذاعة النشيد الوطنى الأمريكى، احتجاجا على أوضاع السود. ورغم كل الانتقادات التى وجهت له، أصر كيبرنيك على ما يفعل فى بداية مباريات متتالية ولم يشأ الحديث للإعلام. كان ذلك فى أوج حملة انتخابات الرئاسة. وقتها أطلق ترامب تصريحا فجا اتهم فيه اللاعب بعدم الوطنية وطالبه بأن يبحث له عن بلد آخر. عندئذ خرج كيبرنيك عن صمته وشرح موقفه للإعلام قائلا «لدينا هيلارى كلينتون التى أطلقت على الصبية السود (مفترسين) ولدينا ترامب العنصرى بشكل صريح... ما الذى تعبر عنه هذه الأمة؟... لن أقف لإظهار الفخر بعلم بلد يقهر السود وأصحاب البشرة غير البيضاء». وقد تبع كيبرنيك فى مسلكه عدد من اللاعبين السود للكرة الأمريكية ثم غيرها من الرياضات وتضامن معهم عدد من زملائهم البيض. أما ترامب فلم يتوقف يوما عن انتقاد أولئك اللاعبين وتقريع أصحاب الفرق الرياضية، وكلهم من البيض بالمناسبة، لأنهم لم يطردوا أولئك اللاعبين من الفرق، ولم يتخذوا موقفا صارما إزاءهم. وفى أحد تصريحاته كرئيس، استخدم ترامب لفظا فجا من قاموس الشتائم الأمريكى فى وصف اللاعبين السود. وبالفعل كان تأثير ترامب قويا. فكيبرني�� الذى انتهى عقده عام 2016 لم يجد فرقة واحدة تتعاقد معه. ثم أعلن اتحاد الكرة الأمريكية مؤخرا أنه يحظر على اللاعبين الركوع وقت النشيد الوطنى.
والحقيقة أن كيبرنيك ليس أول الرياضيين السود الذين استخدموا شهرتهم للفت الانتباه لمظالم السود فى بلادهم. فهو تقليد طويل يمتد من صاحب الميدالية الذهبية تومى سميث، ومرورا بجاكى جاكسون ووصولا لمحمد على كلاى. وكلهم دفعوا أثمانا باهظة، بل إن كلمات كيبرنيك كانت بالضبط ما قاله جاكى جاكسون وقتها.
واستخدام الركوع تحديدا له دلالاته من واقع تاريخ سود أمريكا. ففى زمن العبودية، ظل النظام الاجتماعى يحظر تعريف السود بالديانة المسيحية باعتبارها ديانة «السيد الأبيض». ثم حين سمح لهم لاحقا بالدخول فى المسيحية، لم يكن ذلك يعنى إنهاء لعبوديتهم، بل كانوا يلقنون، زورا، تعاليم تؤكد على دونيتهم. وساد الفصل العنصرى بالكنائس كغيرها من المؤسسات الأمريكية. وفى عام 1787، تم جر حفنة من السود من رُكَبِهم وهم يصلون بالكنيسة حين تخطوا دون قصد المنطقة التى تفصلهم عن البيض فى الصلاة. وقد كانت تلك الواقعة نقطة البدء نحو إنشاء كنائس خاصة بالسود أو ما صار يعرف «بالكنيسة السوداء»، والتى باتت منذ ذلك التاريخ من أهم مؤسسات السود ليس فقط الدينية وإنما الاجتماعية أيضا ورمزا لمقاومة العنصرية والاضطهاد. وفى أوج حركة الحقوق المدنية، كان الشباب السود يركعون فى صمت يصلون خارج كنائس البيض كرمز للاحتجاج على الفصل العنصرى. ومن هنا، فإن اختيار كيبرنيك وزملائه للركوع له دلالة رمزية تضرب بجذورها فى عمق ثقافة السود.
ترامب يخاطب بتصريحاته قطاعا محددا من جمهوره الذى انتخبه وهو وحده الذى يمثل الأولوية لديه. السؤال الأهم يتعلق بالمدى الطويل نسبيا، فإلى أى مدى سيؤثر ترامب على معضلة أمريكا الأصعب مراسا، معضلة العرقيات والإثنيات؟.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع