العنصرية مرض عالمي عضال، لم تشفَ منه البشرية عبر العصور المختلفة، وهو مرض يطل برأسه القبيح عبر عشرات الصور، بعضها علني وصريح، وبعضها الآخر ضمني ومستتر. والعنصرية المستترة ليست أخف وطأة في تأثيرها المدمر على حياة ضحاياها.
ومن بين أشكال العنصرية التي تتدثر بعباءات تبدو بريئة تلك الحملة الشرسة التي يشنها اليمين الأمريكي ضد البرامج التي تشجع التعددية والمساواة، وهي مجموعة من البرامج والمبادرات التي تساعد المؤسسات المختلفة، عامة وخاصة، على التعامل الكفء مع كل أشكال التمييز فيها، فهي تقدم صوراً مختلفة من الدعم لكل مؤسسة وفق احتياجاتها، كإعداد الدورات التدريبية للعاملين أو مساعدة المؤسسات التعليمية في إيجاد المادة العلمية الموثوقة أكاديمياً، التي تساعد الأساتذة والطلاب على مجابهة أشكال التمييز الصريحة والمستترة.
ورغم أن تلك البرامج موجودة منذ سنوات طويلة دون أن تثير جدلاً يذكر، فإن الصعود المتزايد لليمين وفوزه بالأغلبية في المجالس التشريعية للولايات ووصوله لمنصب حاكم الولاية في عدد منها كان وراء استهداف تلك البرامج.
وفي الولايات التي يهيمن الجمهوريون على المؤسسات التشريعية والتنفيذية فيها، كتكساس وفلوريدا وألاباما ويوتا، بدأت فعلاً عملية تفكيك تلك البرامج، ففي فلوريدا مثلاً، أدار حاكم الولاية، رون دي سانتس، حملة شرسة فرضت قيوداً هائلة على تدريس ما اعتبره مواد «تثير الانقسامات» بين طلاب المدارس والجامعات، بل استهدفت الحملة عشرات الكتب ليس فقط التي تتناول التاريخ الأمريكي، وإنما شملت روايات لكبار الأدباء، كانت على رأسهم أديبة نوبل السوداء توني موريسون.
وقد قام عدد من الولايات بالموافقة على قوانين حظرت البرامج التدريبية، بل وألغت مناصب في الولايات كان من يشغلها مسؤولاً عن دعم برامج المساواة والتعددية. وتوجد عدة ولايات أخرى تنظر جدياً في اتباع خطى الولايات الأربع بخصوص تلك البرامج.
الأخطر من ذلك أن من يستهدفون تلك البرامج يستهدفون أيضاً الأقليات ممن يشغلون المناصب المختلفة باعتبارهم نتاجاً لتلك البرامج، أي وصلوا لمناصبهم بفضلها لا بسبب كفاءتهم، وهو ما زعموه، بالمناسبة، عن كلودين جيي، أول رئيسة سوداء لجامعة هارفارد قبل طردها من منصبها. ويتخفى الذين يستهدفون تلك البرامج وراء عبارات «إيجابية»، في جوهرها فكرة روجوا لها بقوة منذ تولى باراك أوباما الرئاسة.
والفكرة، التي صارت اليوم «نظرية» تزعم أن الولايات المتحدة قد تخطت إرث العنصرية التي لم تعد مؤثرة. وعليه، فالمنهج الأفضل اتباعه هو مجتمع لا يرى لون الجلد فيما صار يعرف بمجتمع يتميز بـ«عمى الألوان».
وتقوم نظرية «عمى الألوان»، باختصار، على أسطورة مؤداها أن المسألة العرقية في انحسار منتظم بأمريكا، منذ حركة الحقوق المدنية، حتى إنها صارت لا تذكر بدليل انتخاب أول رئيس أسود للبلاد، وهو ما يعني أنه لم يعد هناك دور للعنصرية ولا للمسألة العرقية.
ومن هنا، يفسر البيض، مخترعو النظرية، عدم التساوي الواضح بين مقدرات السود والبيض بأنه نتاج مجموعة عوامل ليس من بينها العنصرية، مثل الثقافة الخاصة بالسود التي تعوق النجاح، بل ويتهمون السود بالكسل، ويؤكدون أن بإمكانهم النجاح مثلهم مثل غيرهم دون أية عوائق تتعلق بالمسألة العرقية لو عملوا بجد واجتهاد.
والحقيقة أن تلك النظرية تعتبر العنصرية شيئاً ثابتاً، لا يتغير بتغير الزمن والسياق الاجتماعي والسياسي، وتعتبرها نابعة عن أحداث فردية ليست من مسؤولية المؤسسات العامة مواجهتها. بعبارة أخرى، تتجاهل النظرية العنصرية المؤسسية، أي الأعراف والقواعد والهياكل، التي تعيد إنتاج الأنماط العنصرية ذاتها، دون أي تدخل من الأفراد. وتلك العنصرية المؤسسية هي التي تحتاج للتدريب على اكتشافها وعلاجها، وهو بالضبط ما تفعله برامج «التعددية والمساواة» التي يستهدفها تيار اليمين في الولايات.
أكثر من ذلك، أجريت مؤخراً دراسة استخدمت الاستبانات للوقوف على توجهات الرأي العام بخصوص تلك البرامج، فتبين أن 75% من الأمريكيين يؤيدونها ويريدون مزيداً من برامجها التدريبية، خصوصاً لضباط الشرطة والأطباء والمدرسين، بل يريد 65 % منهم دورات تدريبية للعاملين بالقطاع الخاص.
بعبارة أخرى، لا تزال هناك حاجة ماسة، تلمسها أغلبية الأمريكيين، لمجابهة العنصرية، بل اتضح أن تلك الأغلبية لا توافق على حكاية «عمى الألوان» ولا تصدقها.