بقلم - منار الشوربجي
فاجأنى حقًا أن البعض فوجئوا بالإفلاس الأدبى والأخلاقى للحكومات الغربية إزاء جريمة العقاب الجماعى التى تشنها إسرائيل على غزة. إذ رحت أسأل نفسى: ما الذى كان يتوقعه يا ترى أولئك الذين فوجئوا بمواقف تلك الحكومات؟ هل كانوا يتوقعون منها مثلًا أن تأتى بأساطيلها لتدافع عن غزة وترفع عنها الحصار؟ هل توقعوا منها أن تطلب من إسرائيل إنهاء الاحتلال؟ وما الذى كانوا يتوقعونه بالضبط من دول كانت ضالعة فى جرائم مشابهة من الجزائر لأيرلندا، ومن الكونغو للمكسيك، بل مارس بعضها الآخر استعمارًا استيطانيًا فى أمريكا الشمالية حيث المذابح والتهجير القسرى للسكان الأصليين، وآخر يصاحبه فصل عنصرى فى جنوب إفريقيا، فظل نيلسون مانديلا «إرهابيًا» فى القانون الأمريكى حتى 2006. ما المفاجئ بالضبط؟!
غير أن ذلك الإفلاس الأدبى والأخلاقى للحكومات الغربية يضعنا إزاء «غربين» لا «غرب» واحد، إذا جاز التعبير. فقد كشفت جرائم إسرائيل عن اتساع الهوة بين مواقف تلك الحكومات وشعوبها. فعشرات الآلاف من المواطنين «الغربيين» خرجوا للشوارع فى كبرى المدن الغربية احتجاجًا على مواقف حكوماتهم الداعمة لإسرائيل، واعتبروها شريكًا مباشرًا فى الجرائم التى تُرتكب فى حق الفلسطينيين. والكثيرون يدفعون ثمن تلك المواقف فى مجتمعاتهم، ومع ذلك هم على استعداد لدفع ذلك الثمن. وبالتالى، فرغم أنه لا جديد فى مواقف الحكومات، فإن الجديد الذى ينبغى التركيز عليه هو اتساع الاحتجاجات المدنية فى الغرب، والتى مثلت التظاهرات أحد تجلياتها. وهى تظاهرات أكبر من أى وقت مضى، ولا ينظمها أو يقودها بالضرورة ذوو الأصول العربية أو المسلمة، حتى أن فرنسا وألمانيا قيدتا التظاهر من أجل فلسطين بدعوى مكافحة العداء للسامية. وهى حجة لم تردع هؤلاء، بل نظم يهود تلك البلدان احتجاجات أكبر من أى وقت مضى يعلنون رفضهم ذبح الفلسطينيين باسمهم، ويعلنون صراحة أن دعم الحقوق الفلسطينية لا يمثل عداء للسامية.
أما فى الولايات المتحدة، التى كانت الأقوى فى
دعمها لإسرائيل، فقد احتل ائتلاف من جماعات يهودية أمريكية باحة الكونجرس، مطالبين ليس فقط إدارة بايدن بل والكونجرس بالامتناع عن إرسال السلاح والعتاد الحربى لإسرائيل. والحقيقة أن هذا التحول كانت كاتبة السطور قد أشارت لإرهاصاته الأولى فى أمريكا أكثر من مرة فى هذه المساحة. وهو تحول مهم لأنه يجرى فى أوساط الأجيال الشابة تحديدًا، بمن فى ذلك اليهود منهم. فالشباب الأمريكيون عمومًا صاروا أكثر وعيًا بقضايا العنصرية والتمييز ببلادهم وخارجها. والشباب من اليهود الأمريكيين صاروا، منذ عقد على الأقل، أكثر علنية فى انتقادهم لإسرائيل، إذ لم يعد يقنعهم خطاب «الضحية» الذى تستخدمه إسرائيل، بينما هى دولة نووية مدججة بالسلاح من كل نوع وصنف. والكثيرون منهم ممن يسافرون لإسرائيل يرون بأعينهم سياسة الفصل العنصرى فى الشوارع والمعاناة اليومية التى يتعرض لها الفلسطينيون بل والجدر العازلة التى رفضوا مثيلها على حدود بلادهم مع المكسيك. وهؤلاء الشباب الأمريكيون عمومًا، لا اليهود منهم فقط، أكثر حساسية إزاء الدور البائس لحكومتهم بالعالم بل ولا يستقون معلوماتهم من الإعلام التقليدى وإنما من مواقع بديلة على الإنترنت وعبر وسائل التواصل الاجتماعى. أكثر من ذلك، فإن الأقليات، وخصوصًا السود، يعرفون أكثر من غيرهم، وعبر تجربتهم المريرة، كيف يزوِّر الإعلام الحقيقة، بل ويخلق حقيقة بديلة مقطوعة الصلة بما يحدث على أرض الواقع