بقلم : محمد صلاح
ستظل المجتمعات العربية، ولسنوات مقبلة، تدفع ثمن أفكار وتابوهات و «هرتلات» أمسك بها من يطلقون على أنفسهم النخب السياسية وثورجية الفضائيات ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي منذ ضرب الربيع العربي المنطقة، واستخدموها لضرب أي استقرار وتعطيل كل إنجاز. من بين تلك «الكليشيهات» مسألة «الحوار المجتمعي»، والذي صار مطلباً يطرح ويطنطن به الراغبون في إعادة العجلة إلى الوراء، والمتشبثون بتلابيب الفوضى ومناخ الثورات، كلما تم الإعلان عن مشروع جديد (في أي مجال) أو قرار مهم أو نشأت أزمة سياسية أو اقتصادية أو توتر في علاقة الدولة بأخرى، وعندما تبدأ الأجهزة الرسمية المنوط بها اتخاذ مواقف أو إجراءات للتعاطي مع التطور الجديد، تقفز على الفور تلك الوجوه المعروفة والمحفوظة والمكروهة لتطفوا إلى واجهة الصورة، ويبدأ أصحابها في سن حناجرهم وتلميع وجوههم ثم يتسابقون لحجر أماكنهم في الاستديوات أمام الكشافات والمصابيح والكاميرات، أو يجهزون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ويملأونها بشعارات تطالب بحوار مجتمعي حول هذه القضية أو تلك.
بالطبع جميلة فكرة الحوار المجتمعي، إذ رائع أن يتناقش الناس في الأمور التي تخصهم أو تمثل إضافة إلى مجتمعهم ليخرجوا بنتائج تنزع السلبيات وتضيف إيجابيات جديدة إلى كل فكرة أو مشروع أو قرار، وأن يدلي المتخصصون بدلوهم ويطرحون رؤاهم ويعرضون على فئات الشعب نظرياتهم تجاه موضوع ما، ويردون على أسئلة الحائرين، ويفندون شكوك المشككين، ويطمئنون قلوب الخائفين، كلها معانٍ إيجابية يفترض أن ينتج منها توافق مجتمعي ورضاء شعبي وتفهم وقبول من دون ضغوط أو إكراه. لكن الحوار المجتمعي في مجتمعاتنا التي جرى اختراقها، وبين أطرافه نخب جرى تدجينها أو شراؤها، وفي ظل ظروف يتربص بالمجتمع تنظيم هدفه الوحيد هدم الدولة على من فيها يصبح الحوار شيئاً آخر لا علاقة له بالحوار أو النقاش المتحضر، ولا يمكن أن يخرج بفائدة للمجتمع.
وفقاً لمبادئ العلوم السياسية والاجتماعية التي يدركها الباحث المبتدئ فإن فكرة الحوار المجتمعي «نشأت في ضوء ما أفرزته التحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية من واقع جديد يتطلب جهوداً لاستيعاب هذه المتغيرات وتجنب آثارها السلبية وتعظيم فوائدها الإيجابية واحتواء الخلافات حولها». ولمن يريد مزيداً من التنظير فإن الحوار المجتمعي فرضته نتائج الثورة الصناعية منتصف القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، «حيث ظهرت الطبقة العاملة فكان طبيعياً أن تقيم الطبقة الرأسمالية نظاماً قانونياً يحمي مصالحها، وبالتالي لجأت الطبقة العاملة إلى تكوين تجمعات عمالية وشعبية للدفاع عن حقوق العمال والمجتمع المحلي الشعبي في مواجهة أصحاب الأعمال والحكومات». ويفترض أن يكون الحوار المجتمعي «أداة فعالة تساعد على حل المشاكل والأزمات ويعزز التماسك الاجتماعي عن طريق التفاوض والمشاورات والنقاش والتنازلات وتبادل المعلومات بين مكونات المجتمع أو البلد الواحد» على أن يكون له ثلاثة أطراف: النخب السياسية ورجال الأعمال وممثلو الحكومات للنقاش «حول موضوعات تصب في المصلحة العامة وتعزيز اللحمة الوطنية».
لكنّ كتب ومراجع ونظريات العلوم السياسية كلها تؤكد أنه «لا سبيل لإقامة حوار مجتمعي مثمر إلا بوجود مؤسسات مجتمع مدني قوية ونخب وطنية واعية ومن دون تدخل من أية أطراف مغرضة أو جهات تسعى إلى تحقيق مصالح على حساب أصحاب الحوار المجتمعي أنفسهم». ليس سراً أن المطالبين بالحوار في مصر مثلاً يستخدمون منصاتهم الإعلامية المصوبة نحو المصريين من الخارج، ولجانهم الإلكترونية الإخوانية لزرع الفتن ونشر ثقافة الفوضى بالأساس، هم لا يؤمنون أصلاً بأي حوار مع المخالفين لهم في الرأي أو المواقف، وهدفهم إرباك المشهد وتعطيل الإنجاز وهدم المعبد على من فيه. بالطبع فإن المصريين يسخرون من هؤلاء الذين طلبوا أن يطرح كل مشروع كبير لحوار مجتمعي قبل الشروع في تنفيذه، وأن يخضع كل قرار إستراتيجي لنقاش عام بين فئات المجتمع قبل صدوره، لأن الدعوة إلى الحوار تأتي دائماً من جهات تدعم الإخوان وتحتضن التنظيم الذي يسعى على مدى سنوات إلى هدم مصر على رؤوس المصريين الذين يدركون أن تمثيلية الحوار المجتمعي التي يتم عرضها والإلحاح عليها ليست لمصلحة المجتمع أو الناس، وإنما من أجل أن تبقى الدولة في حال سكون ولا تتحرك قبل أن يقرروا هم ما إذا كان عليها أن تتحرك، وإذا تحركت فأي اتجاه عليها أن تسلكه، بينما المجتمع نفسه يدرك أنهم ضد إصلاحه أو تطويره أو تحريكه، وإنما إفساده وتعطيله وتدميره!
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع