بقلم: عثمان ميرغني
لا يختلف اثنان على أن الثورة السودانية تواجه من التحديات ما يجعل المشفقين عليها يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً عليها، بينما يفتح شهية المتربصين الذين يريدون وأدها.
المفارقة أن التحدي للثورة لا يأتي من خصومها فقط، بل من أنصارها أيضاً. فولع السودانيين الشديد بالسياسة يجعلهم يتناولون كل صغيرة وكبيرة بالتحليل والنقد، كل يقول كلمته ويطرح حلوله، فتكثر الآراء المتباينة من كل حدب وصوب، وتضيع آراء المختصين وأهل الشأن، مما يسهم في تعقيد الصورة لا في وضوحها في كثير من الأحيان. ومع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي أصبح كم ما هو متداول من الأخبار والتحليلات والشائعات يفوق الخيال، وبالتالي يسهل طمس الحقائق ويقلل التركيز على ما هو مهم. خصوم النظام وجدوا في ذلك ضالتهم للتشويش وبث السموم بترويج الشائعات، والتشكيك في كل خطوات حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، والترويج لخلافات مزعومة، أو تضخيم أي خلاف بسيط، وذلك بهدف زرع الفتنة لتفكيك قوى «الحرية والتغيير» وإضعاف صفوف الثورة ومكوناتها.
أنصار النظام والثورة وقعوا في فخ خصومهم بتداول كل ما يقع تحت أيديهم من موضوعات وبيانات وتحليلات من دون تدقيق أو تمحيص، وبذلك يساهمون عن غير قصد في انتشار الكاذب المدسوس وهو كثير، وبالتالي في توسيع دائرة التشكيك والإحباط. ما يضاعف حجم المشكلة أن أنصار النظام السابق، إضافة إلى أجهزتهم ومتطوعيهم ومجنديهم المنتشرين في الفضاء الإلكتروني، ما زالوا متغلغلين في الإعلام التقليدي بل يسيطرون على جله، فينقلون الأخبار بطريقة دس السم في العسل أحياناً، وبالنقد الكيدي المفضوح في أحايين أخرى. بعضهم يتدثر بثوب الثورة مدعياً الحرص عليها ورافعاً لواء المشاركة فيها، لينطلق في تقزيم أي إنجاز للحكومة، بل نفي أنها تقوم بأي عمل يستحق الذكر.
الإسلامويون أجادوا بلا شك أساليب استخدام الإعلام كوسيلة حرب وتضليل وهدم، ومارسوا ذلك بفاعلية لتقويض التجربة الديمقراطية الماضية (1986 - 1989) وإضعاف حكومة الأحزاب المنتخبة، وتهيئة الأجواء للغدر بها في انقلاب يونيو (حزيران) 1989 الذي سيطروا به على مقاليد الأمور وتسلطوا ثلاثين عاماً عاثوا فيها خراباً وفساداً وقمعاً، وقدموا أسوأ نموذج حكم يعرفه السودان في تاريخه الحديث. وها هم اليوم يعودون لممارسة ألاعيبهم القديمة مستغلين عدم قيام الأجهزة المعنية في الحكومة الانتقالية بأي خطوات تذكر لتنظيم الساحة الإعلامية وتنظيفها، وهو أمر يبدو محيراً للكثيرين الذين توقعوا أن تكون معركة الإعلام من ضمن أولويات الحكومة الانتقالية.
الأدهى من ذلك أن الإسلامويين وجدوا في ذلك تشجيعاً وبدأوا يقومون في الآونة الأخيرة بحركات استباقية لأي حملة لتنظيم الإعلام تقلص نفوذهم فيه، وذلك بالسعي لإنشاء مشاريع إعلامية جديدة بوجوه بعضها قد يكون معروفاً، وبعضها من «كتائب الظل» التي تحدث عنها علي عثمان نائب الرئيس السابق و«أمير» تنظيم الحركة الإسلامية، وهي كتائب ليست أمنية ومسلحة فقط، بل تضم خلايا نائمة في قطاعات حيوية مختلفة في الخدمة المدنية والقوات النظامية، وفي الإعلام وعالم المال والأعمال وغيرها من المجالات.
الحرب الإعلامية لا يمكن كسبها في كل الأحوال بإجراءات حكومية متى جاءت ومهما كانت، بل ربما كان الجانب الأهم فيها هو استنفار معسكر أنصار الثورة للدفاع عن حكومتهم وإحباط مخططات خصومهم بعدم تداول الشائعات وبيانات التشكيك التي يبثها أنصار النظام الساقط لتثبيط الهمم، وتبخيس إنجازات حكومة الثورة، ونشر مشاعر الإحباط والسخط. هذا الأمر سيكون خط الدفاع الأقوى في وجه حملات خبيثة أتوقع أن تزداد شراسة في مقبل الأيام لا سيما عندما تحدث بعض الانفراجات، وتتحقق بعض الإيجابيات لتحركات حمدوك وعدد من وزرائه الفاعلين.
فخلافاً لما يثيره المشككون فإن الحكومة الانتقالية ليست بلا إنجازات، بل حققت اختراقات مهمة لكسر الحصار الذي جلبه النظام السابق على السودان، وقطعت خطوات لاحتواء الخراب في عدد من القطاعات والمؤسسات، لكن العمل المطلوب لا يزال كثيراً بالنظر إلى حجم الدمار الهائل الذي ورثته الحكومة الانتقالية والذي سيحتاج إلى وقت لمعالجته. كل الدول الكبرى والفاعلة، والمؤسسات الدولية تنظر بإيجابية للتحول الذي شهده السودان منذ الثورة، وتشيد بالحكومة السودانية وبالعزم الذي تراه لإصلاح الأمور، وتبدي تبعاً لذلك استعدادها لمساندة البلد على إنجاح الفترة الانتقالية وصولاً إلى عتبة الديمقراطية. لكن هذه الأمور تأخذ وقتاً لأنها تتطلب إجراءات وترتيبات لا تتم ما بين ليلة وضحاها مثل مؤتمر المانحين المقرر في أبريل (نيسان) المقبل، أو التحركات الجارية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. فالسودان لكي يبدأ خطوات التعافي يحتاج إلى كل ذلك وأكثر، لأنه لا يمكن أن يعالج جبل المشاكل الموروثة، ويبدأ في استثمار موارده الداخلية، وإصلاح بنيته التحتية من دون دعم خارجي وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات. الأمر الإيجابي أن السودانيين، يبدون مستعدين للصبر وإعطاء حكومة حمدوك فرصة تحتاجها وتستحقها، مدركين أن دمار ثلاثين عاماً لا يمكن إصلاحه في أقل من أربعة أشهر هي عمر الحكومة.
من لا يريدون الانتظار لأنه ليس في صالحهم، هم فلول النظام الساقط الذين يريدون اغتيال الثورة مبكراً بالشائعات والتثبيط وخلق الأزمات وبث الفوضى. إحباط مخططاتهم في هذا المجال يعد أمراً حيوياً في الدفاع عن الثورة، وهذا كي يحدث لا بد من تحرك حكومي عاجل وجهد شعبي متواصل. على الصعيد الحكومي يحتاج الإعلام إلى إعادة نظر شاملة تنهي التمكين الذي اتبعه نظام الإسلامويين، وتنظر في موارد وتمويل أجهزة الإعلام الموجودة سواء كانت مقروءة أو مرئية أو مسموعة. فتكلفة الورق فقط تجعل طباعة نسخة أي صحيفة تتجاوز سعر بيعها، هذا من دون حساب تكلفة التوزيع ورواتب العاملين وتكاليف التشغيل الأخرى من كهرباء ومكاتب وغيرها. أما تكلفة المحطات التلفزيونية فتقزم تكلفة إصدار الصحف، علماً بأن وسائل الإعلام السودانية تفتقر إلى مداخيل إعلانية كافية. معرفة مصادر التمويل سيساعد بلا شك في إعادة تنظيم الإعلام، وربما كان لافتاً في هذا الصدد قيام جهاز المخابرات العامة قبل أيام بتصفية شركات له تعمل في مجال الإعلام. ولأهمية موضوع التمويل لا يمكن للحكومة الموافقة على مشاريع إعلامية جديدة من دون معرفة وتوثيق مصادر تمويلها.
بالنسبة للجهد الشعبي المطلوب فإن أقله عدم تداول الشائعات والأخبار المشكوك فيها، ومقاومة نزعة المسارعة لتداول أي شيء من دون وقفة للتقصي والتفكر. ففي عصرنا هذا يمكن لأي إنسان لو أراد أن يتقصى عن المعلومة، وبالتالي لا يتورط في إعادة بث الأخبار المدسوسة لبث الإحباط وعدم الاستقرار. والعقلاء يهملون بلا شك الدخول في نقاش ما هو غير مفيد، ويعطون أولوية لآراء أهل الاختصاص كل في مجاله، ويفسحون المجال للنقاش فيما يثري ويفيد ويسهمون في تداوله للتنوير وتعميم الفائدة. فالثورة تتعرض لهجمة شرسة، والدفاع عنها يبدأ من صناعها، ومعركة الإعلام تحتاج أن تأخذ موقعاً متقدماً في سلم الأولويات، من دون التقليل من أهمية المعارك والتحديات الأخرى.