توقيت القاهرة المحلي 19:35:15 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بريطانيا المطحونة!

  مصر اليوم -

بريطانيا المطحونة

بقلم:عثمان ميرغني

نحن نقول: «كالمستجير من الرمضاء بالنار»، والإنجليز يقولون عن الشخص الذي يحاول الخروج من نكبة أو ورطة فيقع في أخرى أشد، إنه «كمن يقفز من المقلاة ليسقط في النار». والمثل يعبر عن حال كثير من البريطانيين الذين تشتد حولهم الضغوط الاقتصادية هذه الأيام، وكلما تلقوا خبراً اقتصادياً سيئاً، جاءهم بعده خبر آخر أشد سوءاً. فقد أدى مزيج من ارتفاع أسعار السلع، والوقود والطاقة، والزيادات في بعض الضرائب، وارتفاع نسبة التضخم إلى أسوأ أزمة معيشية منذ سبعينات القرن الماضي، بينما يحذر الخبراء من أن نسبة الفقر في بريطانيا ستبلغ مستويات غير معهودة منذ فترة طويلة. هذا في الوقت الذي قالت فيه هيئة الرقابة التابعة لوزارة الخزانة، إن بريطانيا تستعد لأسوأ انخفاض في الدخل المتاح للفرد منذ أن بدأت السجلات في الخمسينات من القرن الماضي.
أخبار أزمة الغلاء المعيشي نافست أخبار أوكرانيا في وسائل الإعلام البريطانية منذ نهاية الشهر الماضي، وبشكل خاص منذ زيادة أسعار الطاقة للمستهلكين بنسبة 54 في المائة اعتباراً من مطلع أبريل (نيسان) الحالي، علما بأن أسعارها كانت قد ارتفعت أيضاً بنسبة 12 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ومع ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء بشكل مطرد طوال فصل الشتاء، وارتفاع أسعار السلع الغذائية بشكل ملموس، واجه ملايين الأشخاص في بريطانيا خيارات صعبة لتسيير حياتهم اليومية.
في مقابلة مع قناة «سكاي» الإخبارية البريطانية سئل أحد الخبراء الذين استضافتهم مذيعة الأخبار عن نصائحه للجمهور في ظل الضائقة المعيشية الراهنة، فقال: أنصح كل شخص أن يلبس سترتين من الصوف في البيت بدلاً من واحدة لكي يقلل من الحاجة للتدفئة، وإن احتجت للتدفئة فقم بتشغيلها في غرفة واحدة فقط حيث تكون موجوداً، وإنْ شغلتها فاجعل ذلك لساعات قصيرة وليس طوال اليوم. والسبب أن الخيار أصبح بالنسبة للكثيرين بعد ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء، واستمرار برودة الطقس، بين الإنفاق على التدفئة أو الإنفاق على الطعام.
مواطنون التقتهم وسائل الإعلام قالوا إنهم اضطروا لخفض ما ينفقونه على الطعام الذي زادت أسعاره أيضاً، لكي يتمكنوا من تدفئة بيوتهم لأجل أطفالهم. سيدة تعمل في أحد «بنوك الطعام» الخيرية المنتشرة لمساعدة الفقراء، قالت إنها لاحظت أن بعض الأسر صارت لا تقبل البطاطس وتفضل أشياء أخرى لا تحتاج إلى وقت طويل على النار لكي تنضج، وذلك بسبب القلق من فواتير الكهرباء والغاز.
ما فاقم الأزمة أن الزيادات لم تكن في أسعار الوقود فقط، بل توالت تباعاً في الغذاء وعدد من الخدمات والضرائب. زادت ضريبة المجالس المحلية بمتوسط 3.5 في المائة، وفواتير المياه بنسبة 1.7 في المائة، وإيجارات المساكن الاجتماعية بنسبة 4.1 في المائة. وزادت مساهمة التأمين الوطني، وتكلفة تذاكر السفر بالسكك الحديدية، وارتفعت فاتورة خدمة الإنترنت والهاتف والتلفزيون، بينما ارتفعت أيضاً ضريبة الطرق على من يملكون سيارات، والقائمة تطول.
ووفقاً لمكتب الإحصاء الوطني فإن 66 في المائة من الأشخاص البالغين في بريطانيا شكوا من ضغوط ارتفاع تكاليف المعيشة الشهر الماضي. وستضرب الأزمة أفقر 10 في المائة من الأسر البريطانية بصورة أقسى من غيرها من الفئات. وتوقعت مراكز بحثية أن تدفع الضائقة نحو 1.3 مليون بريطاني آخر إلى الفقر المدقع. وسيعاني الشباب ممن هم في مقتبل حياتهم العملية بصورة أكبر لأن دخولهم محدودة، في سوق عمل يعاني من ضغوط كثيرة وتشتد فيه المنافسة. كذلك ستعاني الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل التي لديها أطفال.
وتتخوف الجمعيات الخيرية من أن يدفع الفقر الكثيرين لكي يصبحوا بلا مأوى. ويقدر «متحف التشرد»، وهو منظمة تعنى بهموم هذه الفئة من المهمشين، أن هناك أكثر من 274 ألف شخص في إنجلترا وحدها يعيشون مشردين بلا مأوى ثابت. ويتوقع أن يزداد هذا العدد بنحو 66 ألفاً بحلول عام 2024.
الأسباب التي أسهمت في الضائقة الاقتصادية والمعيشية التي يشكو منها البريطانيون بشدة هذه الأيام، كثيرة ومتنوعة. الحرب الدائرة في أوكرانيا أثرت بلا شك على بريطانيا مثلما أثرت على غالبية دول العالم لا سيما في ارتفاع أسعار الوقود والطاقة، وهذه بدورها تنعكس على أسعار كل السلع والخدمات للمنتجين والمستهلكين على حد سواء، لكن المستهلك هو الذي يتحمل من العبء جله إن لم يكن كله. فالزيادة سواء في تكلفة إنتاج المصانع، أو في فواتير الشحن على سبيل المثال، يتحملها في النهاية المستهلك المسكين.
إلى جانب تداعيات أوكرانيا، فإن بريطانيا مثل غيرها أيضاً من دول العالم تواجه تداعيات جائحة «كورونا» التي شلت الحياة لما يقرب من ثلاث سنوات، وأحدثت ضرراً بالغاً باقتصاديات الدول والعالم، وأثرت على سلاسل الإمداد مما أحدث أزمات ورفع أسعار الكثير من المواد الأولية والسلع. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) أسهم كذلك في ارتباك اقتصادها، رغم أن حكومة بوريس جونسون تحاول التقليل من تداعيات هذه الخطوة التي أيدها كثيرون من أعضائها ومن نواب حزبهم.
ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات أسهم في رفع التضخم إلى أعلى مستوياته في بريطانيا منذ نحو ثلاثين عاماً. فقد قفز مؤشر التضخم إلى 6.2 في المائة في فبراير (شباط) الماضي، أكثر من ثلاثة أضعاف هدف الحكومة البالغ 2 في المائة. وتوقع بنك إنجلترا أن يصل التضخم إلى 7 في المائة مع دخول مفعول الزيادات الكبيرة في أسعار الوقود والطاقة، بينما سينخفض معدل الدخل الحقيقي للأسر بمتوسط 1000 جنيه إسترليني بحلول نهاية العام الحالي. ويتوقع «مكتب مسؤولية الميزانية» أن يصل مؤشر التضخم إلى ذروته عند 8.7 في المائة في فصل الخريف إذا كانت هناك زيادة حادة أخرى في سقف أسعار الطاقة، ولكنه سيبقى في كل الأحوال أعلى من 7 في المائة حتى العام المقبل.
ولأن الانتخابات العامة لا تزال بعيدة في عام 2024، فإن تأثيرات الأزمة المعيشية لن تنعكس بصورة تهدد بقاء حكومة جونسون بشكل فوري، وإن كانت هذه الحكومة تحيط بها مشاكل أخرى بدت في وقت ما وكأنها قد تمهد للإطاحة برئيسها. التأثيرات ستظهر في شعبية الحكومة عاجلاً أم آجلاً، وقد تنعكس على نتائج حزب المحافظين في انتخابات المجالس المحلية المقررة في مايو (أيار) الماضي. فأي أداء كارثي لحزب المحافظين في هذه الانتخابات، سيزيد الضغوط على جونسون الذي كان يواجه انتقادات واسعة بعد فضيحة الحفلات التي أقيمت في مقر رئاسة الحكومة في خرق للقوانين التي كانت سائدة خلال «كورونا».
حزب المحافظين عموماً لا يعرف الرحمة مع قادته إذا كان يرى أنهم أصبحوا عبئاً انتخابياً. فقد أطاح الحزب زعيمته التاريخية الراحلة مارغريت ثاتشر، ثم بتيريزا ماي، ولن يتورع عن أن يفعل الشيء ذاته مع جونسون إن شعر أنه صار عبئاً وفقد جاذبيته الانتخابية. فإن كانت حرب أوكرانيا صرفت الأنظار عن فضيحة الحفلات وخففت الضغوط عن جونسون، سيكون الوضع مختلفاً بالنسبة للأزمة المعيشية، لأن الناخب المكتوي بنيرانها لن ينسى وسينقل غضبه إلى صناديق الاقتراع، والمحافظون يعرفون ذلك جيداً.
بريطانيا ليست وحدها التي تعاني، فالأزمة الاقتصادية والمعيشية عالمية، وهناك دول عديدة تعاني أكثر بالتأكيد، والمقلق أن الأزمة مرشحة للتفاقم، ما يفتح الباب لأزمات اجتماعية وسياسية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بريطانيا المطحونة بريطانيا المطحونة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 09:29 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
  مصر اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 23:00 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

البيت الأبيض يصف كتاب "بوب وودورد" بأنه "قصص ملفقة"

GMT 09:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار في الديكور للحصول على غرفة معيشة مميزة في 2025
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon